المصطفى سالمي
احتار السيد (سليمان) في شأن تأهب وتعبئة زملائه من رجال التعليم إثر الاعتداء على أحد المدرسين، لقد تكررت مثل هذه الاعتداءات وبشكل أكثر سفورا خلال هذا العقد من الزمن، فماذا جد واستجد هذه المرة حتى تثور ثائرتهم ويخوضوا إضرابا ويقفوا مثل هذه الوقفات؟! ألم يحاول أحد التلاميذ منذ وقت قريب ذبح مدرسه بسكين داخل الفصل؟ ألم يتم الاعتداء على كثير من المعلمات في القرى والبلدات النائية، بل والتحرش بهن حتى من الرعاة وسائقي سيارات الأجرة...؟! أم هي مجرد ثورة من أجل إبراء الذمة أمام الله وأمام التاريخ؟! حقا قد تكون صور الشريط الصادم لها من التأثير ما لم يكن لكل ما مضى من وهج وقوة، وربما طفح الكيل بالمدرسين في انتظار ما هو قادم من الخيبات، كان المدرس (سليمان) يعد الشهور من أجل القفز على هذه المرحلة الحارقة من العمر، إنه يحس بتثاقل في جسده كأنما يحمل على أكتافه أتعاب السنين والأيام، سنوات طويلة من الشقاء والكدح الذهني والنفسي وهو يقتطع من عقله وراحته لترقيع عقول تلاميذه، لقد مرت سنوات العمل الأولى سريعة كالطيف الخاطف في ظل تنافس تلاميذه، وفي ظل حماسته ـ هو نفسه ـ لمهنة أحبها وتشربتها أعماق قلبه، لكنه في العقدين الأخيرين مما سمي بـ "سنوات مدرسة النجاح" تآكلت حماسته، وكأنما عملت فيها عوامل التعرية بالهدم والنسف، فأصبحت المهمة ثقيلة كصخرة سيزيف، بدأت الحماسة تتضاءل كذلك في أوساط تلاميذه، لقد أصبح الكسل هو العملة الرائجة، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأصحاب المعدلات المتدنية يقفزون على المراحل ويجاورون بمعدلاتهم المتدنية القلة المجدة في شتى المراحل، هازئين بنقط المدرس وتقديراته، وفقد اللامعون الحافز حين فقد جهدهم جدواه بأن تساووا مع الخاملين، هكذا إذن أصبح الصخب والشغب واللامبالاة عملة رائجة، فالكل ناجح في ظل حقبة اصطلح على تبريرها بمحاربة الهدر المدرسي، لكن لا أحد فكر في كرامة مهنة ستهدر لاحقا، لقد كانت تلك الحقبة في جوهرها حربا على الكفاءة والجودة والجدية والبذل والعطاء بسخاء من التلميذ كما من الأستاذ، إنها فترة اللاحساب، فترة من العبث أنتجت جيلا من الكسالى التائهين، أفواج ـ كالجراد ـ من حملة الشهادات المفرغين من أية قيمة توازي معرفيا ولو قيمة ورق تلك الشهادات ذاتها...
استفاق السيد (سليمان) من خيالاته على وقع هتافات زملائه المدرسين أمام مديرية التعليم وهم يوجهون جام غضبهم على الحكومات المتوالية، شعارات صاخبة ضد الاكتظاظ وتجميد الأجور وضد المذكرات التي تقيد حرية المدرس في الفصل حين تطلب منه أن يكون مجرد حارس على التلاميذ، أو مجرد آلة تلقين، ليس من مهمته التربية أو الزجر والتوبيخ، وأمام تراجع سلطة المدرس وانكفائه في رقعة ضيقة هي رقعة الدفاع، اندفعت سيول الهجوم من الطرف الآخر، من جهة جحافل الكسالى المطالبين بحق غير شرعي في الغش والنجاح المجاني، وبنقط سهلة لا تكلف جهدا، وبفروض وامتحانات يسيرة تشبه أسئلة المسابقات التلفزية، وها هي حلقات العداء بين المدرس والتلميذ تصبح أشد استحكاما وقوة، بينما أفواج جديدة من المتعاقدين يرمى بها في أتون هذه المعركة الحامية التي لم يستطع فك شفرتها القدامى وأصحاب التجارب من المدرسين الذين تلقوا تكوينا مهنيا وممن صقلتهم تجارب الواقع، تُرى كيف ستكون المآلات في مستقبل هذه البلاد التي تعول على قاطرة التعليم للنهوض من كبوات التخلف الذي ترزح تحت وطأته؟ إنها أسئلة لا يمتلك السيد (سليمان) لها جوابا، ربما تكون هواجسه منصبة على عدّ سنوات العمر المتبقية للحصول على تقاعد مريح وبعدها القفز من سفينة يتسلل إليها الماء من كل جانب، هل تراها الأنانية المقيتة من جانبه؟! ولكن ماذا عساه أن يفعل وزملاؤه تعددت مشاربهم وآراؤهم، وما توحدت وجهاتهم، إنهم في بدايات كل موسم دراسي يتطاحنون من أجل استعمال الزمن، وقد يدوس بعضهم بعضا على خلفيات نقابية أو حزبية، وقد لا توحدهم حتى جلسة شاي خلال فترات الاستراحة، أم تراها مؤامرة كبرى محبوكة معقدة لجعل هذه المهنة المقدسة النبيلة في أسفل سافلين، بعد أن كانت مهنة توجه الرأي العام المحلي، وتقف وراء المظاهرات المطالبة بالإصلاح، تؤجج الحركات العمالية والطلابية، تثير حنق المسؤولين، تؤلب المحكومين على الحاكمين، من يدري....؟!