الأستاذة مريم الناوي
تعالت في السنوات الأخيرة في المغرب و العالم العربي كله ،الأصوات المستنكرة والمنددة بما آلت إليه أحوال مجتمعاتنا ، من جهل و تراجع و توان عن ركب الحضارة ، وعزي الأمر إلى تدني نسب القراءة ، و إطراق العرب عن الكتاب وإحجامهم عن سلوك دروب المعرفة ، مقابل انشغالهم بالمعيش و بجملة المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية والنفسية التي تفتقت في لحظات تاريخية متفرقة ، و تفاقمت حتى كادت أن تأتي علي العقل العربي في تجلياته الفردية والجمعية ، فنتج عن هذه الحال سؤال لماذا لا نقرأ ـ نحن العرب ـ؟
و هذه الفقرات لا تتعدى كونها خوضا بسيطا في إجابة هذا السؤال الذي نعده من قبيل الأسئلة الوجودية الكبرى التي تطل منها المجتمعات الانسانية على التغيير و التطور بمجرد تلمس إجاباتها ، إلا أننا نجنح إلي تغيير مبدأ السلب في السؤال إلي مبدأ الإيجاب، فنقول لماذا نقرأ ؟
وسمت هذه الورقة ب"الطريق إلى القراءة سؤال الكيف والغاية "، والعلة في اختيار هذا العنوان إيماننا الجازم بأن القراءة تحتاج لطريق طويلة جدا يمشيها الإنسان بحواسه وأحاسيسه لكي يكتسب صفة قارئ وصفة إنسان .
تبني هذه المحاولة نفسها على سؤالين اثنين، كيف أقرأ ولماذا أقرأ ولا تدعي بالحقيقة أو بالمجاز أنها تقدم الإجابة الكاملة أو الوصفة السحرية، وإنما هي بصيص من التوجيهات التي تحصلت لدينا أثناء رحلتنا القصيرة مع القراءة ومع بعض أساتذتنا أعزهم الله.
أولا :كيف أقرا؟
نحدد للإجابة عن هذا السؤال قسمين من العناصر، عناصر داخلية مرتبطة بالذات القارئة وعناصر خارجية متصلة بالعالم؛ وهي الزمن، والمكان، الكتاب.
ـ الزمن:
نعتقد أن الزمن "الوقت " أحد اعمق الغاز العالم، مادة أساس من المواد التي صنعت بها حياة الفرد، ومعلوم أن الكثير منا لا يقدره ولا يفقه جوهره، قال العرب الأولون :" الوقت كالسيف "ونحت الغرب استعارته حول الوقت: " الوقت هو المال "،ولزم على الإنسان أن يستفيد من الوقت فيما يعود عليه بالمنفعة المنشودة ،وأن يخصص أكبر قدر ممكن من اليوم لاستثماره في البحث بين بطون الكتب وتحصيل متونها وفوائدها ،نحتاج للقراءة بمعدل ست ساعات في اليوم حتى نلتحق بركب الحضارة، لكن حتى لا يبدو الأمر شاقا وضربا من المستحيل ،يمكن للإنسان أن يختار الأويقات الذهبية في يومه، تلك التي يكون فيها مرتاحا ويكرسها للكتاب، وقضية تعيين الزمن مرحلية ، فحينما يدمن الإنسان الكتاب سيقرأ في كل الأوقات؛ في الليل والنهار ،ولن نسمع أحدهم يقول ضيعت وقتي في القراءة.
ـ المكان :
تعتمد القراءة المثمرة كثيرا على توفر عنصر الراحة والتركيز، ويتأتيان بدورهما عن طريق إيجاد عالم خاص ،مكان يأتيه الانسان زمن القراءة ،وينبغي أن يستشعر فيه ذاته وجاهزيته لمعانقة الكتاب ،لكل شخص تبعا لشخصيته طقوسه الخاصة في الحياة وفي المعيش اليومي، والواجب أن يخلق الانسان طقوسا خاصة به وفق ما يؤمن وما يتصور وما يحب ،ولكن نعتقد بصفة شخصية أن مسألة المكان لن تغدو بعد حين شرطا أساسا بعد أن يصاب القارئ بحمى الكتب سيقرأ حينها في كل مكان في البيت ،في الحافلة ،في العمل وقت الاستراحة.....الخ
الكتاب : ـ
يفصح الكتاب عن نفسه من خلال عتباته، ويحكم القارئ على الكتاب انطلاقا من معايير مختلفة تكون في غالبها شكلية؛ الألوان ،عدد الصفحات ،الثمن ،بيد أن هناك عتبات على القارئ وهو في طريقه إلى الكتاب أن يتعرف عليها ويحتاط من الاصطدام بها، من خلال إجراء مسح بصري لعتبات الكتاب كلها :العنوان ،اسم المؤلف ،دار النشر، الايقونة ،ظهر الكتاب، لائحة المصادر والمرجع المقدمة، الخاتمة ...ـ و ذلك يسمح بإنشاء ثقافات موازية ـ ، ينبغي فحص هذه العناصر إبان اقتناء الكتاب،مع التأكيد على ضرورة التدرج في اختيار صعوبة المقروء و تنويع المقروئية.
هذا جل ما يتصل بالعناصر الخارجية لعملية القراءة ،فبوجود الزمن والمكان والكتاب ينقصنا شيء واحد هو القارئ الذي سنتناوله في الشق الثاني من العناصر المطلوبة لممارسة القراءة.
القسم الثاني : عناصر داخلية ـ ذاتية
تستدعي عملية القراءة من الإنسان استثمار حضوريه الجسدي والذهني: على مستوى الجسد :تشكل الجلسة مفصلا أساسا في نجاح عملية القراءة ،ولذلك ينبغي اتخاد الوضع الملائم أثناء القراءة ،وضع يسمح للإنسان باستحضار الجانب الذهني بشكل سليم وبالمواصلة والاستيعاب دون تعب ،كما أن العين تعد الحاسة المركزية في القراءة، فبها يلتقط القارئ تلك الرموز المصفوفة في الكتاب وتنتقل بعد ذلك إلى الذهن ليقوم بعمليات الفهم والتحليل والتركيب.
" ـ العنصر السيكولوجي "النفسي
يعد الجانب النفسي في نظرنا حجز الأساس في عملية القراءة ،إذ إن سلامته من عدمها هي مايضمن النجاح أو الفشل، ولما كانت القراءة نشاطا إنسانيا واعيا ،وجب التعامل معها بكل أشكال الوعي الإنساني ،ومن صفات هذا الوعي:
ـ التركيز: لن يتمكن القارئ من الانتقال من التمثل السطحي للغة إلى التمثل الذهني للمعنى الذي يؤسسه فهمه إلا عن طريق التركيز والدقة ومجانية الشرود والسهو ،ويعد الدافع أوالحافز على القراءة أهم المساعدات على التركيز ،ومن هنا بدا لزاما على كل واحد منا أن يجد الحوافز التي تحثه على القراءة وتسافر به صوب المعرفة والتجربة ،ومن بين أهم دوافع القراءة وحوافزها ،السؤال ،لطالما كان السؤال نافدة شرعية للمعرفة ،ومما ينصح به في هذا السياق وضع مجموعة من الأسئلة قبل مباشرة الكتاب ،وحين ذلك لن يهدأ روع القارئ ولن يرتاح إلا بعد أن يحصد الإجابات الممكنة.
ـ التدرج: يمكن لكل واحد منا أن يرى في القراءة مشروع عمر ،وحياة موازية لحياته البيولوجية ،إذا حصلت هذه القناعة في الأذهان ،سيفهم الإنسان أن القراءة تحتاج إلى الترفّق والتمهل لاكتساب "ملكة القراءة " كما يحدث له مع اللغة فالإنسان يتدرج في اكتساب اللغة ولا يتقنها مرة واحدة ،وهذا ينطبق في رأينا على القراءة أيضا " ،يقول سبحانه وتعالى: "قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً " سورة الطلاق ، الآية 3.
كما أن التدرج يمنع عن القارئ أخيلة الملل والضجر إذا يستشعر الراحة ولا يحس بأي ضعظ عليه ،يقول أحدهم " القراءة تحتاج الى عمر نوح ومال قارون وصبر أيوب " ،بذلك فالصبر والأناة والتروي شروط ملزمة لكل من اختار سبيل القراءة.
ـ التفاعل: تتأسس الصغية الصرفية لهذه الكلمة على المشاركة وتفترض وجود طرفين اثنين، هما في مقامنا هذا القارئ/ المقروء ،يبني القارئ بإزاء مقروئه هدفا يبغي الوصل إليه وينتظر من الكتاب بذل المعلومات وتقديمها ،و بالمقابل ينتظر الكتاب من قارئه تفاعلا مع ما يقدمه ويبذله له متنه ،تتنوع أشكال التفاعل ويبقى أهمها بالنسبة لنا:
ـ التلخيص والحفظ والتسجيل بحيث يصاحب القارئ في طريقه الى الكتاب جذادة للقراءة تتضمن بعض العناصر التي سيريد في المستقبل العودة اليها.فالقراءة نشاط يعتمد على نقطتين اثنتين ،الممارسة والإنتاج ؛ تتأسس الممارسة على انصهار الذات القارئة مع المقروء على مستويات الفهم والتحليل والتأويل ،ويتم بعد ذلك الانتقال من التفاعل بالممارسة الى التفاعل بالإنتاج عبراستثمار المقروء في مقامات تواصلية متنوعة.
ثانيا :لماذا اقرأ؟
عرف الإنسان بكونه ذلك الكائن المادي البراجماتي الذي يبحث عن مكامن المنفعة ويتخذ بعد ذلك سبله إليها؛ ( أعبد الله لأخل الجنة، أدرس لأعمل ...الخ) ،وطبعي أن يطرح على نفسه السؤال "لماذا اقرأ؟ " وقد حددنا بعض الغايات التي يمكننا أن نقرأ من أجلها:
ـ الامتثال لأمر إلهي: اقرا لأن الله سبحانه وتعالى أمرك أن تقرأ وهو العالم بأن وراء الفعل خيرات كثيرة لك ـ نؤكد هنا على اختلاف السياق والمعنى المراد من الأمر لكننا نفهمه في معناه الظاهر البسيط ـ
ـ اكتشاف السر: يميل الانسان بفطرته إلى الاكتشاف والسبر ،والقراءة وسيلة مثلى لذلك، اقرأ لتكتشف السر فكل كتاب يحمل سرا ويشكل مهمة خاصة بالنسبة إليك، واقرأ لتحصيل المعرفة ،ولتكتشف الفائدة أيضا ،فلكل كتاب فائدة كما يقول ابن قيم الجوزية رحمة الله.
ـ البحث عن الإنسانية: وحدها القراءة حسب تصورنا سبيل لاكتشاف إنسانيتنا، فاقرأ لتكتشف إنسانيتك ولتزيدها إنسانية، فمع الكتاب ستضحك وتفرح وتبكي وتصرخ وتصمت وتتقوى وتختبر كل مشاعرك وكل خوالجك بشكل مستمر ،وبالقراءة ستصنع نظرتك للكون والحياة والآخر وتنمى أحكامك وأذواقك تجاه العالم ،و اقرأ لتضع لبنتك في هذه الحضارة التي استدعت زمنا طويلا من القراءة لبنائها ، اقرأ لتبرع في تشييد أحلامك وآمالك و غدك القريب و البعيد،سئل ارسطو كيف تحكم على الإنسان، قال :أساله كم كتابا تقرأ وماذا تقرأ،اقرأ لثبت وجودك وتصنع الكوجيطو الخاص بك" أنا أقرأ إذن أنا موجود".
ـ البحث عن أكثر من حياة: يعيش الانسان ما قدر له الله أن يعيش لكنه يعيش مرة واحدة في دنيا واحدة إذا لم يكن قارئا ولذلك اقرأ لتجد نفسك مرات كثيرة ،يقول الكاتب الكندي ستان برسكي:" يجب على القراء أن يكون لهم مليون لهم مليون سيرة ذاتية " ونوافق الرأي لأن كل صفحة من صفحات كتاب نقرأه ستضيف إلي أذهاننا وتجاربنا وقناعاتنا أيضا
إن السبيل إلى الحد من هذه المعضلة التي أصابت الجسد الثقافي العربي يمكن أن تتقلص وتزول و تختفي رويدا إذا نحن أجبنا عن سؤال آخر يبدو لنا أعمق و أدق و أكثر إلحاحا ، وهو متى توقف العرب عن القراءة ؟ ،و هم العرب أنفسهم الذين صنعوا الحضارة و أسسوا المدنية و طافوا مشارق الأرض و مغاربها فاتحين باحثين عن العلم، متحملين في سبيله وعثاء السفر و مديد المسافات
وفي الختام نحب أن نؤكد على أمر واحد ،هو أننا وجدنا لنقرأ لا لنفتي في القراءة ونعلمها ولكن إيماننا بالرسالة التي نؤديها وتعلقنا بالمرسل اليهم يحتم علينا المشاركة في هذه التحديات التي ليس لها أن تتجاوز إلا بتضافر جهود كل ذي صلة بالهم المعرفي و التربوي والإنساني.