حاوره سعيد الشقروني
سؤال: الدكتور والأستاذ عبد العزيز بنعيش، دكتوراه في اللسانيات والتواصل، وباحث في قضايا اللغة والتواصل والتربية والتنمية، فاعل جمعوي، و"رئيس منتدى الوحدة للأبحاث والدراسات في العلوم الإنسانية" بتاونات، وعضو المكتب الوطني لمركز الدراسات والأبحاث في منظومة التربية والتكوين بالرباط، لكم العديد من الكتب، والمقالات، والمشاركات، وأشرفتم على العديد من الأنشطة والحوارات..أرحب بكم، وأشكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار للاستفادة من آرائكم وتحليلاتكم حول العديد من القضايا المرتبطة بالتربية والتكوين. لهذا أسألكم بكل مودة، كيف ترون واقع المؤسسات التعليمية اليوم؟
جواب: بداية أود أن أشكر الدكتور سعيد الشقروني على تفضله بإجراء هذا الحوار، كما أحيي فيه نبل الاهتمام والمسعى وحكمة الاختيار، فكما لا يخفى على مهتم بشأن تطور المجتمعات البشرية فإن المدخل الأساسي للتقدم والتنمية على جميع الصعد هو التعليم والبحث العلمي، وأي بلد يراهن على غير الاعتماد عليهما من أجل الانتماء إلى القرن الواحد والعشرين، وما يعنيه ذلك من المشاركة في صناعة الحضارة البشرية، وضمان تواجد مشرف بين الأمم، فإنه يراهن على السراب، ولذلك، فإنني أعتقد اعتقادا جازما أن أولى أولويات المجتمعات، خاصة المتخلفة عن الركب الحضاري، هي التعليم والبحث العلمي.
بخصوص سؤالكم القيم فإني أراه صيغة أخرى للسؤال عن واقع التعليم بالمغرب، وفي هذا الإطار يمكن الاقتصار على التذكير بالمراتب المخجلة التي يتبوأها المغرب في تصنيف الدول بحسب جودة نُظمها التعليمية، كميا وكيفيا، سواء كانت المؤسسات التي تصدرها دولية أو إقليمية، فضلا عن التقارير الداخلية، وعلى رأسها تقرير المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008، والتقرير التحليلي للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي سنة 2014، وخاصة ملاحظاته الأخيرة التي تنذر بالكارثة.
لقد أصبح هذا الوضع المزري للواقع التعليمي بالمغرب منكشفا للداخل والخارج، وللخاصة والعامة، وهو ما أكده خطاب رسمي لأعلى سلطة في البلاد بتاريخ: 20 غشت 2012؛ وما يعرفه الدخول المدرسي لهذه السنة من ارتجال واختلالات في الموارد الموالية والبشرية لهو أكبر برهان على العبث والتردي الذي وصل إليه هذا القطاع، وهو ما يفقد شعارات الإصلاح مصداقيتها، كما يشي بأن المحاولة الجارية الآن وفق منظور "الرؤية الاستراتيجية 2015/2030"، والتردد والارتباك الحاصل في أجرأة دعامات حلقتها الأولى المتمثلة في "التدابير ذات الأولوية 2015/2018"، لا تساعد على التفاؤل، ورغم ذلك كلنا أمل ألا تكون مآلاتها تكرارا لمآلات الإصلاحات التي سبقتها لا قدر الله. (واخا المَثَل كايقول: "الفضيلة باينة من العَاصر").
إن كل الدراسات والتقارير تؤكد أننا بإزاء منظومة تعليمية معطوبة وفاشلة، وفي ظل وضع كهذا، نتساءل ما الحال التي يمكن أن تكون عليه المؤسسات التعليمية كما في سؤالكم؟ أعتقد أنه لا يمكن أن تكون إلا مزرية، ومن مؤشرات ذلك: غياب التعليم الأولي ببعض المناطق وارتجاليته بمناطق أخرى، ضعف البنيات التحتية، ضعف التجهيزات، الاكتظاظ، التسيب، العنف، الغش، ضعف الحكامة، مشكل الأمن، دمج الأقسام، لا مصداقية التقويم، التنجيح التلقائي بالكوطا، البرامج المملة، عدم مسايرة المدرسة للتطور التكنولوجي، كراهية المدرسة، الفقر، الهدر المدرسي، ضعف التعلمات، الفشل الدراسي، الخصاص في الموارد البشرية، ضعف التأهيل، ضعف التكوين الذاتي والتكوين المستمر، ضعف الإشراف والتأطير والمراقبة، انعدام التحفيز، الإحباط، الاستهتار، الإحساس باللاجدوى، الانتهازية...
وفي هذا السياق لا بد من التمييز بين مؤسسات التعليم العمومي وبين مؤسسات التعليم الخصوصي، حيث تجدر الإشارة إلى أنه رغم الأعصاب المشتركة بينهما، فإن بعض مؤسسات التعليم الخصوصي، خاصة ذات التكاليف العالية، تقدم خدمات جيدة لأولي الحظوة الاجتماعية، بينما تفتقر مؤسسات أخرى إلى الشروط الضرورية مقارنة حتى مع المؤسسات العمومية. وهو ما يجعل هذا القطاع يعمق من إفلاس المنظومة التعليمية، وربما يعجل بالفشل التام للدولة في القطاع وهي مصممة على التخلص منه وتسليع خدماته عبر تفويته للخواص الذين لا يهمهم إلا الربح المادي، كما يفقد شعارات الحق في التعليم والجودة والمساواة وتكافؤ الفرص مصداقيتها.
وجل ما قلته عن التعليم الأساسي والثانوي ينسحب على التعليم الجامعي. وأما قصة البحث العلمي فلا يمكن أن تعبرعن قضيتها إلا زفرة ألم، فهزالة الميزانية المخصصة للبحث العلمي، وضعف الإمكانات، وغياب التحفيزات، وشبه فراغ المختبرات من مقتضيات البحث، والاكتظاظ وما ينتج عنه من ارتفاع نسبة التأطير للأستاذ الواحد، ورشاوى الماستر والدكتوراه في بعض الحالات، وغير ذلك، كلها ظواهر تؤثر سلبيا على التحصيل العلمي والبحث والعطاء، سواء بالنسبة للأساتذة الباحثين أو الطلبة. ولعل الترتيب الدولي المخجل للجامعات المغربية برهان كاف للتدليل على فظاعة عقم تعليمنا،وللتشخيص الدقيق اسأل به خبيرا..
أريد فقط أن أقف عند قضية توظيف أساتذة التعليم العالي مساعدين، أنت تعرف جيدا كيف تفصل المناصب على المقاس في عدد من الحالات، وكيف تُعتمدمعايير لا علمية ولا معرفية، ولا بيداغوجية، من قبيل: "باك صاحبي"، و "اللي عندو خالتو فالعرس مايبات بالجوع"، والنسب، والقرابة، والحزب، والقبيلة، والطائفة، والتملق، و"لحيس الكابة"، ومدى الاستعداد للخنوع والعبودية والانخراط في اللوبي، فضلا عن أداء الخدمات بأنواعها... وغير ذلك؛ وقد عاينت شخصيا بعد التوظيفات التي ينتفي فيها حتى شرط التخصص، كما أعرف بعضهم ممن يُقبَلون لتدريس وتأطير الطلبة، وممن يُعَوّل عليهم للبحث العلمي، أفرغ من الفراغ (أستسمح على استعارة أسلوب شيخ العربية الشاعر أبو الطيب المتنبي) ..
وحتى لا نضع كل البيض في سلة واحدة، كما يقال، يجب أخلاقيا التنبيه إلى أن هنالك استثناءات طبعا، هناك أطر كفؤة، شريفة، نزيهة، قابضة على الجمر، وهي، على العموم، عملة نادرة، تبقى دائما هي نقطة الضوء التي نتطلع لأنوارها.
واسمح لي أن أعود إلى ظاهرة لا ينبغي أن نغفل عن لفت الانتباه إليها، وهي ظاهرة التعاقد التي ترخي بظلالها على المشهد في الكثير من المؤسسات الجامعية، ولا أعتقد أنه يخفى عليك كيف أبدعت الوزارة المعنية في مسألة التعاقد مع طلبة الدكتوراه، خاصة وأن ذلك يترك أضرارا بليغة، سواء تعلق الأمر بالمردودية العلمية، أو بالتحصيل والبحث العلمي لطلبة الدكتوراه أنفسهم. والمسؤولون يعون ذلك أكثر من غيرهم، لكنهم ماضون في تطبيق هذه السياسات الترقيعية. والحال أن الكثير من الأطر العلمية الحاصلة على الدكتوراه والمتوفرة على تجربة بيداغوجية في التعليم الأساسي أو الثانوي، أو الموزعة على الإدارات التي لا علاقة لتخصصها بها، أو المعطلة في الشارع، طاقات لا نعرف أية حكمة في هدرها دون أدنى قدرمن الحس الوطني الذي يتحمل فيه المسؤولون على القطاع المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
في ظل وضع كهذا يخيم على المشهد، كيف يمكن أن يكون عليه واقع التعليم الجامعي والبحث العلمي في نظرك؟؟
س: غير بعيد عن هذا، كيف تنظرون اليوم إلى علاقة التلميذ بالمدرسة؟
ج: بعض مميزات هذه العلاقة تمت الإشارة إليها فيما سلف، وتؤدي عموما إلى النفور، في هذا الإطار لا بد من التأكيد على أن الرغبة عامل نفسي حاسم في التحصيل الدراسي للمتعلمين، وهذا يطرح على المدرسة سؤال الجاذبية، والجاذبية تقتضي إعادة النظر في المدرسة، سواء على مستوى البنيات التحتية والمرافق والتجهيزات والوسائل، أو على مستوى البرامج والمناهج، أو على مستوى الموارد البشرية المؤهلة، أو على مستوى التحفيز، أو غير ذلك.. وبالموازاة مع المدرسة تتحمل الأسرة، ويتحمل الإعلام بجميع أنواعه، وكل قنوات التنشئة، والعوامل الاقتصادية، وطبيعة تمثل التلميذ للمدرسة، مسؤولية كبيرة في ذلك؛إن هذه العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية متكاملة هي التي تتحكم في علاقة التلميذ بالمدرسة، ولأن الأمر كذلك، فإنه لا ينبغي أن نقعفي خطأ التعميم، فنتحدث عن نفور عام، لأن النفور من المدرسة يختلف وجوده وعدمه ونسبته من سياق إلى آخر، إلى أنه مع ذلك يبقى ميسما يسم علاقة التلميذ بالمدرسة في المغرب، خاصة بالمدرسة العمومية باعتبارها ضحية السياسات العامة، وكذا مؤسسات التعليم الخصوصي ذات الطابع الترقيعي. يمكنك الأستاذ سعيد أن تزور بعض المؤسسات، مجرد غرف أعدت للسكن، بدون ساحات، بدون مجال أخضر، بدون نقل يحفظ للمتعلمين كرامتهم، بدون، بدون... ناهيك عن طبيعة الموارد البشرية...
بنظر من أوتي أدنى حظ من المسؤولية وسلامة العقل، كيف يمكن أن تكون علاقة التلميذ بالمدرسة في ظل وضع كهذا؟ !
س:ما هي في نظركم أسباب الخلل في منظومة التربية والتكوين؟
ج: بنظري المتواضع يمكن الحديث عن سببين رئيسيين:
- السبب الأول ذو بعد سياسي، ويتعلق بضعف الإرادة السياسية، لدى صانعي القرار ومهندسي السياسات العامة، وذلك لأسباب يعرفونها جيدا، ويعرفها خبراء التربية والتعليم، وذوي الاختصاص والاهتمام، منها ما يرتبط بما هو داخلي ومنها ما يرتبط بما هو خارجي. ولا بد في هذا الإطار من الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني تتحمل بدورها المسؤولية في معضلة التربية والتكوين بالمغرب، فالتعليم قضية مشروع مجتمعي يهم كل المغاربة، مؤسسات وجماعات وأفرادا. إلا أنه بالمجمل فإن المسؤولية الكبرى تتحملها الدولة، لماذا؟ لأنها المسؤولة عن صناعة كل هاته الجهات، وأعتقد أن حجم الحرج الذي تشعر به في عمقها هو ما يدفع ببعض المسؤولين، بدون استحياء، إلى التملص من المسؤولية وإلقائها على عاتق الأطر التعليمية، تارة بدعوى عدم الانخراط في الإصلاحات، وتارة بدعوى ضعف التكوين وانعدام الكفاءة، وتارة بدعاوى أخرى، وهي دعاوى لا أستطيع إنكارها في المجمل، لكن الأسباب الرئيسة للفشل غالبا ما يتم غض الطرف عنها، وانتهاج سياسة النعامة. وحتى إن سلمنا بفرضية مسؤولية الأطر التعليمية فإن ذلك سيشكل، بالتحليل العلمي، حجة كافيةلإدانة سياسة الدولة في انتقاء وتأطير وتكوين الأطر التعليمية. لا أريد أن أفصل في هذه النقطة، لكن اسمحوا لي، السي سعيد، أن أؤكد لكم أن مؤسسات تكوين الأطر لا ينبغي أن يسمح بالعمل بها إلا للأطر ذات الكفاءة العالية، وليس لكل من هب ودب، كما لا ينبغي أن تستقبل إلا الطلبة المتميزين والمتوفرة بهم الشروط الأساسية للتربية والتعليم، وهي متعددة الأبعاد، فحتى الضبط العلمي والمعرفي إذا توفر لا يكفي في نظري لإسناد مهمة صناعة الإنسان والمجتمع والمستقبل لأي كان، والواقع غير هذا كما تعلمون، وأنتم أهل الدار، وأهل مكة أدرى بشعابها...
- والسبب الثاني تقني، ويرتبط بصياغة نموذج تعليمي وطني أصيل ومستقل وديمقراطي مرتبط بواقع المغاربة وتاريخهم وثقافتهم وتطلعاتهم، ومنفتح على تجارب الأمم الرائدة للاستفادة منها، ويكون آلية لتشييد المشروع المجتمعي المتوافق عليه ديمقراطيا بين كل المغاربة، وتطبيق هذا النموذج عمليا، وما يتطلبه ذلك من الإرادة والموارد المالية والبشرية والتحلي بالمسؤولية، والحال أن المشاريع التي صيغت في الإصلاحات المتتالية منذ الاستقلال، ومنها المشروع الأخير "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، ومحاولة إصلاح الإصلاح (البرنامج الاستعجالي)، كانت كلها فاشلة، كانت هدرا للزمن والجهد والمال العام، والأخطر من كل ذلك أنها كانت هدرا للثروة البشرية التي لا تعدلها أية ثروة، النموذج الياباني على سبيل المثال. أمافي المحاولة الأخيرة "الرؤية الإستراتيجية 2015/2030" فيظهر أن حجم الأهداف المسطرة لا يتماشى مع الإمكانيات المتوفرة، وأننا بصدد تكرار السيناريو، ومؤشرات الدخول المدرسي لهذه السنة، والارتباك الحاصل، وحجم الخصاص من الموارد المالية والبشرية،وشركات المناولة، وغير ذلك من المؤشرات تشي بذاك.. كل أملي أن يخيب توقعي هذا.
ومن الأسباب التي أدت وستؤدي إلى كل هذا الفشل، أسباب تقنية مرتبطة في مجملها بالتصور والصياغة والتخطيط والأجرأة والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة...
وعلى ذكر ربط المسؤولية بالمحاسبة أتساءل عن المليارات التي نهبت وضاعت، وعن مصيرها، وعن الإعفاءات بدون متابعة، وعن معايير إسناد المسؤوليات، وعن آليات المحاسبة..
وللتداخل الوثيق بين هذا وذاك لا بأس من الإشارة إلى أن العلاقة التي تحكم السبب الثاني بالسبب الأول هي علاقة الاستتباع، وبالتالي فنجاح المشروع التعليمي سيكون مرهونا بنجاح المشروع السياسي والمجتمعي.
س: لماذا يفشل إصلاح التعليم في المغرب؟
ج: بعد كل الذي ذكرت أود أن أؤكد على حقيقة كون بعض المشاريع تحمل جينات المرض في ذاتها، وكلما طال بها العمر وشاخت إلا واقتربت من الموت أكثر، وأمام هذا الوضع لا تنفع المهدئات الترقيعية... تحتاج إلى صيغة أوضح؟ المنظومة التعليمية بالمغرب محتاجة إلى إصلاح جذري، والإصلاح الجذري والحقيقي لا يمكن أن يتأتى في غياب مشروع مجتمعي وطني حداثي ومستقل وديمقراطي متوافق عليه بين كل مكونات المجتمع.
س: ما الذي يمكن أن يُخرج المنظومة التربوية من وضعها الحالي؟
ج: لا شيء مستحيل أستاذي الفاضل، لكن ذلك مشروط بتوفرالإرادة القوية، والحس الوطني المسؤول، والوعي الصحيح، والمجتمع العقلاني، والحوار والتواصل بين مكونات المجتمع في فضاء ديمقراطي تغيب فيه النزوعات الإقصائية والتكفيرية والسلطوية والتحكمية...نحتاج إلى مجتمع تعترف فيه كل الأطراف بحق الآخر في الاختلاف والوجود والمشاركة... نحتاج إلى مجتمع تتظافر فيه كل الجهود لإنتاج الخير العام، نحتاج إلى ثقافة الإبداع...
صدقني، متى تنضج هذه الشروط نستطيع إتيان المعجزات... كيف نعمل لتحقيق ذلك؟ هذا هو السؤال في ظل واقع كواقعنا، هذا هو السؤال سيدي... من يتحمل المسؤولية؟ الكل مسؤول بدون استثناء؛ النظام السياسي مسؤول، الأحزاب السياسية مسؤولة، النقابات مسؤولة، الهيئات الحقوقية مسؤولة، الهيئات الإعلامية مسؤولة، الهيئات الدينية مسؤولة، كل مؤسسات المجتمع المدني مسؤولة، الأسر مسؤولة، الأكاديمي مسؤول، المثقف مسؤول، الفنان مسؤول، المعلم مسؤول، الفرد مسؤول...
وأي عمل نظري، مهما أوتي من الجودة والإتقان، خارج هذا السياق حظوظ نجاحه ضئيلة جدا، إن لم تكن منعدمة، برهان ذلك مآلات الإصلاحات المتتالية، وعلى رأسها مشروع"الميثاق الوطني للتربية والتكوين"... نظريا المشروع محاولة متقدمة جدا، وإن كانت عليها مؤاخذات مرتبطة أساسا بالنزوع إلى الخوصصة وبالجانب المالي، كما يمكن أن تكون به نواقص... إلا أنه مشروع متقدم، لكن " عْمّارْ الْحْمارَة ما تُوْلْد الْعَوْدْ".
س: في رأيكم دكتور، ما الأدوار التي يمكن أن يقوم بها المجتمع المدني في هذا المجال؟
شكرا على السؤال، على ذكر مسؤولية المجتمع المدني سالفا، اسمحوا لي، أستاذي الفاضل، أن أغتنم هذه الفرصة للتنويه بالمجهودات الجبارة التي تقوم بها بعض الجمعيات في هذا الإطار، وأخص بالذكر "مركز الدراسات والأبحاث في منظومة التربية والتكوين" الذي يترأسه، وينسق أشغال مكتبه الوطني وفروعه، بكل مسؤولية واقتدار، وبنفس نضالي تضحوي، وبجرأة نادرة، الدكتور سعيد العلام. وبهذه المناسبة لا يفوتني، باسم "منتدى الوحدة للدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية بتاونات" أن أعرب له عن عميق التقدير والاحترام لتجاوبه التضحوي مع الدعوات التي توجه إليه لتأطير أشغال المنتدى والمشاركة في أنشطته، فضلا عن تكرمه بالنصح والإرشاد والدعم. والشكر والتقدير موصولان أيضا ل: "جمعية المبادرة للبيئة والتنمية، عين جنان بوعادل"، و "جمعية الزريز للتنمية والتعاون"، ولكل الجهات الداعمة والمشاركة، مؤسسات وأفراد.
ولكن، ماذا عساني أقول بخصوص مجهودات كثير من الجمعيات؟ "الأبحاث والدراسات والتوصيات ها هيا والإصلاحات فينا هيا"...
س:على ذكر التواصل، أي تواصل ترونه ناجعا أو مفيدا في واقعنا التربوي؟
ج: قبل مباشرة الجواب على هذا السؤال التقني الذي يحتاج إلى مؤلف كامل، أجد أن من مقتضياته التأكيد على أن العملية التربوية في جوهرها عملية محض تواصلية، تلتئم حول مائدتها مجموعة من الأطراف، ونواة هذه العملية معلم ومتعلم ومحتوى وعلاقات، وهذه العناصر تتحرك في سياق يمتد من الفصل الدراسي بنوعيه (التعليم بالقسم، التعليم عن بعد) إلى خارج الفصل، ومن المؤسسة بالنسبة للتعليم التقليدي، أو الفصل الدراسي بالنسبة للتعليم عن بعد، إلى الشارع والبيت ودور الثقافة وغيرها من الفضاءات، والعلاقات بين مختلف الأطراف في مختلف الأفضية علاقات تواصلية، لذلك ينبغي إيلاؤها بالغ الاهتمام. أما عن التواصل في الحقل التربوي فيمكن التمييز فيه بين الجهات التالية: متعلم/مقرر، متعلم/معلم، متعلم/متعلم، متعلم/إدارة، متعلم/أسرة، متعلم/إعلام، متعلم/شارع، معلم/مقرر، معلم/معلم، معلم/إدارة، معلم/ مشرف، معلم/أسرة، معلم/إعلام، معلم/شارع، وهكذا تتعدد الأطراف وطبيعة العلاقات التواصلية التي تربط بينها...
أما عن التواصل الفعال في الواقع التربوي، فسأكتفي بالحديث عن العملية التربوية داخل الفصل، وإلا فإن الحديث عن الواقع التربوي يتسع للحديث عن كل الأطراف، وهو ما لا يسمح به المقام. ومن مقتضيات التواصل الفعال في العملية التربوية يمكن أن نستحضر مايلي: الرغبة،الكفاءة، التمكن، حسن البيان، التحرر، المسؤولية، التخلق، حسن التعبير، قوة الشخصية، المرونة، الهدوء، الاحترام، التقدير، الذكاء، القدرة على التكيف، حسن الإصغاء، الانتباه، الجدية، الصدق، الإخلاص، الحب، التواضع، الاهتمام، العدل، التبادلية...بعض هذه المقتضيات يرتبط بالمتعلم، وبعضها يرتبط بالمعلم، وجلها مشترك، أضف إلى ذلك التجهيزات والوسائل الديداكتيكية...
س: من خلال متابعتنا لأنشطتكم ومقالاتكم نلمح حضور ملفوظات من قبيل العقل، أو التربية على العقل، أو الحاجة إلى النقد.. باعتبارها موضوعات مهيمنة في معظم تحليلاتكم، هل ترون بأن الخطاب التعليمي والتربوي في حاجة إلى تربية النشء على استخدام العقل؟
ج: شكرا لإثارتكم هذه القضية ذات الأهمية البالغة جدا، التي تتحدد درجة أهميتها بأهمية العقل نفسه، فما معنى الإنسان الذي لا يعقل؟ وما معنى المجتمع الذي لا يعقل؟ ونحن نطرح هذه الأسئلة لا بد أن نميز ونحن نتحدث عن العقل بين القدرات العقلية وطبيعتها، ويهمنا منها أن نميز بين بعضها، كالقدرة على التخزين والحفظ من جهة، وقدرات أخرى كالتحليل والتركيب والسؤال والنقد والإبداع من جهة ثانية، والذي نعنيه بإعمال العقل يرتبط أساسا بالقدرات من الجهة الثانية؛ ولعل التركيز على الحفظ والاجترار هو ما ركزت عليه المنظومة التربوية التقليدية، التي أنتجت أجيالا معطوبة خاملة مقلدة، تكتفي باجترار ما أنتجه الآخرون دون تفكير أو روية. وقد لعبت الثقافة العربية الإسلامية المستندة إلى الفهم السيء للدين، بالإضافة إلى المدرسة دورا كبيرا في قتل العقل بعد طمسه من خلال عدم الاهتمام بتنمية القدرة على التفكير وما يتفرع عنها من قدرات وصقلها، خاصة فيما يتعلق بالجانب الإنساني والقيمي، وذلك ما فشلت فيه المنظومة التربوية والتعليمية إلى حد بعيد، ولذلك تقوم الحاجة الملحة لإعادة النظر في الخطاب التربوي والتعليمي وتوجيهه لصناعة الإنسان العاقل المفكر، وليس الكائن الآلي الممسوخ والجاهل رغم تمكنه من مجموعة من العلوم التقنية، وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على أهمية العلوم الإنسانية.
بعبارة موجزة يحتاج خطابنا التربوي والتعليمي أن يركز على ضرورة إخراج الإنسان من القصور إلى الرشد، وذلك هوالخروج من الظلمات إلى النور. وأساس ذلك التفكير العلمي العقلاني الذي من مقتضياته السؤال والتحليل والنقد والإبداع... وعلى سبيل النقد ينبغي إعادة النظر في النص المتوارث "...كل محدثة بدعة" هكذا على إطلاقها... وفي كثير من المسلمات، دينية أوغير دينية..
س: ما الذي نحتاجه كي نروض العقول بالتربية؟
ج: نحتاج إلى بيداغوجيا تجعل التربية على إعمال العقل أولى الأولويات، وتعمل على إيجاد وإبداع الآليات الجديرة بتنمية مهارات التعقل، وذلك شأن أهل الاختصاص في التربية، من بيداغوجيين وفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس. وقبل ذلك نحتاج إلى إرادة القوةوإلى إرادة التغير والتغيير.
س: هل يمكن أن تخبروا القارئ عن مشاريع أنشطة المركز والمنتدى؟
ج:المركز مقبل على تنظيم الدورة العاشرة للمناظرة الوطنية حول أسئلة إصلاح منظومة التربية والتكوين في سؤال السياسات التربوية، وقد تناول في دورات سابقة أسئلة كبرى أخرى، وهي على التوالي: إصلاح المنظومة التربوية: إشكاليات تنزيل الدستور، هوية المدرسة، الجهوية التربوية، المسألة اللغوية، الإشراف والتأطير التربويين، التعليم العمومي والخصوصي، الحكامة التربوية، التوجيه والتخطيط التربويين، سؤال القيم. والدورة العاشرة ستكون في موضوع السياسات التربوية، كما قلت قبل قليل، والمركز بصدد التحضير لها..
أما بالنسبة لأنشطة ومشاريع "منتدى الوحدة للدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية بتاونات" في الموضوع، فقد سبق أن نظم المنتدى لقاء علميا حول أسئلة إصلاح منظومة التربية والتكوين سنة 2013 بمناسبة اليوم العالمي للمدرس، وكان نشاطا افتتاحيا لأشغال المنتدى، كما كان خلال ربيع السنة الماضية عازما على تنظيم ندوة وطنية تحت عنوان: القضية التعليمية بالمغرب: المعضلة الكبرى"، إلا أن ظروفا موضوعية دعت إلى التأجيل، ونحن الآن بصدد الإعداد والترتيب لهذه الندوة..
سؤال:محاوري المحترم.. كلمة أخيرة..
جواب: أخيرا أود أن أقول: إن سؤال التربية والتعليم بالنسبة إلينا، هو سؤال "نكون أو لا نكون"، وإن سؤال الإصلاح التربوي مرهون بسؤال المشروع المجتمعي، وإن سؤال التربية على إعمال العقل هو سؤال الإنسان الذي نريد.حرااام مطلق أن تضيع هذه الثروة البشرية الهائلة فالمغرب، والمغرب بلد شاب.. وإن أخشى ما أخشاه هو أن يضطلع بمسؤولية التربية والتعليم ولد زروال مول الحولي... الكارثة الله يحفظ..
أشير أيضا، لو سمحت السي سعيد، إلى أن هذا التحليل يمكن أن يبدو، عند البعض، متشائما، وفي هذا الإطار أود أن أنبه إلى أن الناس عادة لا يقبلون نفسيا أن يروا قبحهم في المرآة، لكنه الواقع والحقيقة.. سنصبح عقلانيين وناضجين حين نفرق بين التفاؤل العلمي بما هو توقع للأحسن بناء على مقدمات وأسباب ومعايير واقعية، وبين التفاؤل بما هو مرض مزمن يسببه فيروس التوهم باعتباره توقع ما لا يتحقق؛ ولعمري إن هذا أحد الفروق الأساسية بين التفكير العلمي العقلاني والتفكير غير العلمي اللاعقلاني. وعلى أية حال، ينبغي للمرء أن يتفاءل خيرا عله يجده، على الأقل من أجل التخفيف والترويح عن نفسه. الأمل.
سؤال: الدكتور عبد العزيز بنعيش، شكرا جزيلا على سعة صدركم، وعلى غنى الأفكار وعمق التحليل..
جواب: العفو، بدوري أشكركم جزيل الشكر، وأتمنى لكم التوفيق.