د.عبد الرحمان اليعقوبي(أستاذ التعليم التأهيلي لمادة الفلسفة)
يتأسس القول الذي سأدلي به هنا على تجربة طويلة في الممارسة التعليمية في التعليم التأهيلي، ومعنى هذا فإننا لا نريد أن نخوض في إشكاليات نظرية مجردة حول المشكل اللغوي في التعليم التأهيلي أو في المدرسة المغربية بشكل عام. وقد وجدنا أمامنا ونحن نفكر في هذا الموضوع مجموعة من المقاربات بعضها يعمم المشكل ويبحث له عن أسباب عامة وبعضها يناقش الأمر بناء على مرجعيات نربوية لا تلامس الأمر عن قرب وقد نجد من يختزل الأمر في أسباب ذات طابع سياسي بل وحتى أيديولوجي. إن المشكل جد معقد والادعاء بالقدرة على ضبط أسبابه الدقيقة أمر صعب. ولهذا فإن مقاربتنا ستتوجه أساس إلى تشخيص المشكل ووصفه بالقدر الممكن من الوضوح والدقة بناء على التجربة المباشرة واليومية، بغية التنبيه إلى ما هو موجود في الواقع وبحثا عن مقترحات تكون قريبة مما هو كائن,
أعني بالمشكل اللغوي في المدرسة المغربية في التعليم التأهيلي ذلك الضعف الكبير الذي نعاني منه كمدرسين في التواصل مع التلميذ الذي يفترض أن يكون في مستوى مقبول من تشرب اللغة التي بها سيتلقى المعرفة ويستطيع أن يبني بها فكرا واضحا.
اللغة التي نشير إليها هنا هي اللغة العربية الفصحى داخل المواد التي تعتبر هذه اللغة حاملها الأساس، وتشمل عموما كل المواد ذات الطابع الأدبي التي تعتمد في عملية تعليمها وتعلمها على مستوى إتقان التلميذ للغة الفصيحة.
الأحكام التي سنصدرها تهم شريحة كبرى من التلاميذ، أي أننا لا ندعي أن هذه الظاهرة هي ظاهرة شاملة، فلا نريد أن نحكم حكما مطلقا على فشل المدرسة المغربية، وإنما نريد أن ننبه إلى معضلات تطال الواقع التعليمي كما يلمسه المدرس في الميدان وما يعاني منه في كل لحظة. فنحن نلاقي بعض النماذج الجيدة بل الممتازة في مستواها اللغوي في كل سنة، لكن مثل هذه النماذج تقل سنة بعد الأخرى، وهو خطر يجب الانتباه إليه.
المشكل اللغوي عند التلميذ في المستوى التأهيلي يتجلى في عدة مظاهر يمكن عرضها باعتبارها مؤشرات سواء لقياس القوة أو الضعف في المستوى اللغوي وأيضا باعتبارها كفايات يجب العمل على الوصول إليها. وإذا كان التعليم المغربي يتأسسس على بيداغوجيا الكفايات( كفايات تواصلية، كفايات منهجية، كفايات ثقافية، كفايات استراتيجية) فإن الكفاية اللغوية تخترق كل هذه الكفايات، إذ بدون قدرة لغوية وبدون قدرة على إنتاج تواصل لغوي كاف ستصبح كل الكفايات مجرد خطاطات لاتحقق غاية ولا تصل إلى هدف
من الكفايات التي يجب الوصول إليها ونحن نمارس عملية التدريس في المواد ذات الطبيعة الأدبية هي:
القراءة – الكتابة- الإنصات – التعبير
أولا : القراءة
نعني بالقراءة مدى قدرة التلميذ على ممارسة عملية القراءة وبصوت مرتفع أمام أصدقائه . يلاحظ أن أغلب التلاميذ يكونون غير قادرين على القراءة الجيدة المتمثلة لغويا في العناصر التالية:
- النطق الصحيح للكلمات إما بسبب أنهم لا يعرفون معنى الكثير من هذه الكلمات أو أنهم لا يعلمون الطريقة الصحيحة لنطقها.
- قراءة الجمل دون قدرة على إثبات حركات الشكل والإعراب، أونطقها بطريقة خاطئة.
- الجزم العام لكل كلمة سواء كانت في بداية الجملة أو في وسطها.
- الارتباك في القراءة الناتج عن وضع نفسي يفتقد فيه التلميذ الثقة بالنفس وهو يقرأ أمام زملائه.
ثانيا: الكتابة
تعتبر كفاية الكتابة من الكفايات التي تؤشر إلى مدى تحقق عملية التعلم ومدى نجاح مسار العملية مند المراحل المراحل الأولى، باعتبار المستوى التأهيلي هو تتويج لهذه العملية. وتتجلى هذه الكفاية في مدى قدرة التلميذ على كتابة نص يعبر فيه عن فكرة ما، سواء تعلق الأمر برأي خاص بالتلميذ أو بمجرد إعادة إنتاج فكرة ما. يتجلى ضعف الكتابة لدى التلميذ في المظاهر التالية:
- ضعف الزاد اللغوي الذي يملكه التلميذ بحيث أنه لا يستطيع أن يعبر عن أفكاره بشكل واضح.
- ضعف في قدرة التركيب والذي يتجلى في عدم القدرة على صياغة جمل واضحة وصحيحة .
- ضعف واضح في التركيب النحوي والإملائي للكلمات والجمل.
- ضعف النفس الإنشائي عند التلميذ الذي لا يستطيع الاسترسال في بسط أفكاره بطريقة تامة ومصاغة صياغة إنشائية منطقية.
ثالثا: الإنصات
تعتبر قدرة الإنصات من القدرات الدالة على المستوى الفكري واللغوي للتلميذ، لأنها تدل على مدى تركيز التلميذ ومدى قدرته على فهم ما يعرض أمامه من أفكار . ويلاحظ على هذا المستوى وجود ضعف كبير في قدرة الإنصات لدى التلميذ، ويتجلى ذلك في المظاهر التالية:
- عدم قدرة التلميذ على إعادة ما تلقى بشكل واضح وهذا ما يدل على عدم استيعابه الواضح لما سمع.
- الشرود المتواصل المتجلي في طريقة الجلوس والنظر.
- الانشغال بأعمال أخرى تدل على ضعف انتباهه.
رابعا: التعبير
ونعني به التعبير الشفوي الذي يشير إلى أن التلميذ يملك أفكارا واضحة يستطيع التعبير عنها أو أنه يملك قاموسا يستقي منه كلمات قابلة للصياغة في جمل مفيدة. ولهذا نجد أمامنا تلميذا عاجزا عن التعبير الواضح عن أفكاره بلغة واضحة وسليمة, يتجلى كل هذا في بعض المظاهر منها:
- الاختزال في الكلام إلى الحد الذي يصبح فيه الكلام غير معبر عن شيء.
- عدم قدرة التلميذ على شرح الفكرة التي يعبر عنها إذا ما طلب منه ذلك.
- التعبير بكلام غير واضح وغير مفهوم، فإذا طلب من التلميذ التوضيح وضح بجمل أكثر غموضا.
الخلاصة العامة التي يمكن الوصول إليها من كل هذا هو أن المشكل اللغوي لدى التلميذ هو مشكل مركب يتجلى في ضعف عام يعيق بناء عملية تعليمية ناجحة، ويمهد بالتالي إلى إفراز نموذج قادر على التعامل مع المعرفة وإبداعها الشيء الذي يعاني منه الطالب الجامعي مما يؤدي إلى الهدر الجامعي وضياع الإمكانيات المرصودة لقطاع التربية والتعليم سواء المدرسي منه أو الجامعي.
إن هذا الوصف المختزل لظاهرة الضعف اللغوي لدى تلاميذ التعليم التأهيلي يدفعنا إلى طرح مسألة هامة لها بعد فلسفي أولا ثم لها دلالات اجتماعية وثقافية، ويتعلق الأمر بعلاقة اللغة بالفكر. إن الضعف اللغوي يرتبط بالضعف الفكري لارتباط اللغة بالفكر ولكون الفكر بدون لغة أمر لا وجود له. عندما تضعف اللغة تصبع عملية بناء الفكر صعبة لآن حقيقة الفكر تتجلى فيما نعبر عنه لغويا. فالضعف التجلي في اللغة يؤكد بالتالي ضعفا في الفكر، ولهذا يجب أن نتصور الفكر في مجتمع لا يتقن أفراده لغة فصيحة للتعبير عن هذا الفكر، أما التعبير عن طريق اللهجات المتداولة في مجتمع من المجتمعات فهو لا يتجاوز إعادة إنتاج للمعرفة العامية و لا يتجاوز الفكر هنا ما يقدمه الحس العام. والمؤكد من التجربة الإنسانية أن الشعوب لا تتقدم بلهجاتها ومعرفتها العامية . فاللهجة العامية لا تستطيع عموما الانتقال السلس من المحسوس إلى المجرد ومن ومن بادئ الرأي إلى ماهو برهان ومنطق. وهنا يمكن فهم خطورة الدعوة إلى التدريس باللهجة لأن مثل هذا الطرح سيؤدي إلى إضعاف قدرة المتعلم على إنتاج فكر قادر على تجاوز الملموس نحو المجرد.
للفكر علاقة وطيدة باللغة ولا فكر بدون لغة. ولا معنى للفكر إذا لم لم يترجم إلى لغة فصيحة وواضحة. فكلما كانت اللغة ضعيفة ومحصورة فيما هو عامي ومباشر لن يكون هنالك فكر حقيقي، وبالمقابل لن يكون للفكر معنى إذا لم يترجم إلى لغة فصيحة وبرهانية. يسري هذا على الفكر بمعناه العلمي أو في مجال التعبير الفني. ويلاحظ أن التلميذ المغربي أصبح يشكو من الضعف الفكري في كافة هذه المجالات. ودلالة الضعف اللغوي ونتيجته المباشرة هو اضمحلال الفكر وخموده، بل إن الأخطر من هذا هو الآثار الكبيرة على هوية التلميذ الذي لن يكون قادرا على الوعي بذاته ولا بمحيطه . ولهذا كان التعليم أهم مقوم من مقومات التقدم عند أي شعب من الشعوب، ولن يتقدم شعب بدون لغة وبدون فكر وبدون قدرة على الإبداع، وكل هذا لا يتم بدون لغة، بل يجب أن تكون اللغة هي اللغة الأم وليست أية لغة.
إن وصف الظاهرة المتمثلة في الضعف اللغوي لدى التلميذ في التعليم التأهيلي لا يعني أن فهم الظاهرة هو أمر سهل وبسيط. سواء تعلق الأمر باسبابها أو بالأساليب التي يجب اتباعها أو الأدوات التي يجب استعمالها لتجاوز هذه المعضلة. لكن هذا لا يمنع من الاستمرار في القول وعرض بعض الأسباب التي ساهمت في انتشار الظاهرة وأيضا بعض المقترحات العملية التي قد تساعد في حل هذه المشكلة.
يمكن رد أساب ضعف المستوى اللغوي لدى التلميذ في التعليم التأهيلي إلى أسباب ذاتية وأسباب موضوعية.
نعني بالأسباب الذاتية ما يرجع إلى التلميذ من حيث وعيه بذاته وقدراته وتركيزه واهتمامه ووضوح الأهداف التي من أجلها يعمل ويكد. أما الأسباب الموضوعية فهي مجموع الأسباب التي تعود إلى مسار التلميد كمستهدف من العملية التربوية والتعليمية، ومدى نجاح هذه العملية المتواصلة في إنتاج شخص قادر على التفاعل الصحيح والفعال مع ما يقدم إليه ومدى كون المنهاج المتبع في العملية التعليمية مستجيبا لما هو منتظر من التلميذ ومدى ملاءمة المضامين الموضوعة لما ينتظر من العملية التعليمية.
وهكذا نرى بأنه من الأسباب الذاتية لتفشي ظاهرة الضعف اللغوي ضعف التعامل مع الكتاب، إذ نجد أن التلاميذ لا يهتمون بالقراءة في أي شكل من أشكالها . لهذا نجد أن من التلاميذ من لم يقرأ كتابا واحدا على مدى مساره التعليمي. بل إنه يحس في ذاته نوعا من النفور من الكتاب والميل فقط لما هو جاهز في الوسائط الإعلامية المختلفة، أي أنه يفضل أن يكون منفعلا متلقيا لا فاعلا منتجا كما هو متاح في عملية القراءة . ثم هنالك عامل ذاتي آخر وهو عدم الثقة بالنفس أي أن التلميذ يعتقد بأنه غير قادر على القراءة والفهم حتى قبل البداية في القراءة أو الكتابة أو الكلام، وضعف الثقة بالنفس هي ظاهرة منتشرة أشد الانتشار لدى التلميذ المغربي. ونضيف إلى كل هذا عاملا آخر وهو الإحساس بعدم جدوى ما يقدم له، وعدم الثقة بقدرة اللغة التي يتعلمها على الإفادة في الواقع والمستقبل، ولهذا فلا حاجة إلى إتعاب النفس في الاهتمام بها. ونضيف سببا آخر وهو عدم قدرة التلميذ على التركيز إبان عملية التعلم وهنا تصبح هذه العملية بدون فائدة كبيرة. وما يلاحظ هنا أن جل ما قدمناه من أسباب ذاتية يرجع إلى ماهو نفسي ، وهذا ما يبين أننا أمام ظاهرة يمكن أن نسمها بأنها ظاهرة مرضية تنتشر في مؤسساتنا التعليمية وتحتاج إلى جهد علاجي كبير.
أما فيمل يخص الأسباب الموضوعية فإننا نقدم للحديث عنها بالقول بأن التلميذ في آخر المطاف هو منتوج للأدوات التربيوية والتعليمية الموجودة وأنه غير مسؤول إلا في حدود ضيقة عما هو عليه من ضعف، بل إن ما عرض من أسباب ذاتية يعود في جوهره إلى ما هو موضوعي، وهذا ما يضع على كاهلنا مهمة صعبة للعودة بتعليمنا إلى السكة السوية وإلى المسار الصحيح. والمؤشر الأبرز عن نجاح العملية التعليمية هو المستوى اللغوي الذي نستطيع خلقه لدى التلميذ. وكما يقال فإن من لا يملك أكثر من لغة فهو جاهل ، فكيف بمن لا يملك أية لغة؟ ومن بين الأسباب الموضوعية ما آل له الوضع في المراحل الأولى للتعليم في مجال تلقين اللغة. ولن ندخل هنا في بسط الأمر فهو معروف عند الممارسين ويعود إلى عوامل متعددة تبدأ بالمنهج والبرنامج ويلعب فيها المدرس دورا لا يمكن إنكاره وتكون فيه الأسرة ووسائط التربية والإعلام المختلفة مسؤولة مسؤولية لا يمكن إخفاؤها . يتجلى هذا عموما في طغيان اللهجة العامية والقضايا العامية وغياب النصوص اللغوية المؤسسة في البرامج التعليمية وضعف المستوى اللغوي لبعض المدرسين أنفسهم، وغير ذلك من الأسباب الموضوعية التي تساهم في خلق مشكل الضعف اللغوي لدى التلميذ في التعليم التأهيلي.
مع كل ما قلنا فإننا لا ندعي القدرة على التشخيص التام والقطعي، وقد قامت بهذا العمل مجموعة من الجهات الرسمية منها والخاصة. وغرضنا من كل هذا هو الإسهام بقدر الإمكان ومن منطلق التجربة العينية في تطوير منظومتنا التربوية. ولهذا نقترح مايلي:
1- الاهتمام بالموارد البشرية التعليمية بكل ما تعني هذه العبارة من أبعاد لتكون قادرة على أداء مهمتها في ترسيخ القدرة اللغوية بنجاعة وكفاءة.
2- إعادة النظر في المضمون التعليمي الأولي على الخصوص لنقدم للتلميذ مادة مفيدة قادرة على تكوين تلميد يتقن لغته أولا ولغات عالمية أخرى فيما بعد.
3- القيام بمجهود مندمج يسع كل القطاعات التي تلتقي مهمتها مع المؤسسة التعليمية في التعليم والتلقين.
4- دراسة وتشخيص ومعالجة للاختلالات النفسية لدى التلميذ ليكتسب الثقة في قدراته.
5- حسن التوجيه في التعليم وإعطاء ورش التوجيه دوره الأساس في إنجاح العملية التعليمية ولكي لا يبقى التوجيه من العمليات الثانوية أو المساعدة فقط.
[email protected]