حاوره سعيد الشقروني
سؤال: السيد سعيد عبيد، الأستاذ المبرز والباحث في قضايا التربية والتكوين، أود في البداية أن أشكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار والاستفادة من آرائكم وتحليلاتكم التي لنا اليقين بأنها ستكون مفيدة وذات معنى..
جواب: العفو أستاذي العزيز، بدوري أغتنم المناسبة لأشكر منبركم على المواكبة وعلى حرصه على تنوير الفاعلين والرأي التعليمي بالمواضيع الهامة والمفيدة.
سؤال: أستاذي الفاضل، أبدأ بالسؤال التالي: كيف تُقَيِمُون الدخول التكويني في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين هذا الموسم؟
جواب: إذا استثنينا ما اختص به هذا الموسم من شفافية التدبير الجهوي لإجراءات مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، فإنه يكفي أن يسجل المتابع أن هذه المباراة بمراحلها الماراطونية لم تَجر إلا منتصف شهر شتنبر 2015، وأن السنة التكوينية لم تبدأ فعليا إلا يوم 12 أكتوبر، مما يعني ضياع شهرين فعليين من عمر السنة التكوينية القصيرة التي لا تشتمل غير بضعة أشهر، مع العلم أن عشرات الألوف من المجازين المعنيين ظلوا ينتظرونها منذ شهر يونيو الماضي، بكل ما يصاحب ذلك الانتظار من قلق وعذاب نفسي ممتد، ورغم أن الأساتذة المكوِّنين بهذه المراكز كانوا قد أنهوا مهماتهم مع فوج 2014/2015 عمليا منذ نهاية يونيو، وأمضوا شهر يوليوز كله في عطالة مملة، وفي ترقب دائم لصدور المذكرة المنظمة لمباراة الولوج، على أساس إجرائها، ونفض الأيادي منها في نهاية السنة، لكي يتمحض الموسم الجديد 2015/2016 للدخول التكويني الفعلي. قلت: يكفي أن يسجل المتابع هذا ليجزم بالعبث واللامسؤولية الرسميين اللذين طبعا، وظلا يطبعان في كل المواسم الأخيرة، الدخول إلى م ج م ت ت، باستثناء مباراة سنة 2012، فكيف لو اطلع المطلع على خبايا البيت الداخلي، حيث الاضطراب الفظيع في التهييء لامتحانات الولوج، ولاسيما في معايير الانتقاء الأولي، (والانتقاء في حد ذاته ضرب لمبدأي الإنصاف وتكافؤ الفرص)، حيث فوجئت المراكز بمراسلة وزارية في آخر لحظة ليلة الإعلان عن لوائح المنتقين التي كانت جاهزة، مفادها رفض بعض شهادات التكوين، مما تسبب في لخبطة في لوائح المنتقين، وأخطاء إدارية، نجمت عنها حيرة واحتجاجات من لدن المترشحين، واتهامات للجان الفرز، وصدمة إزاء رفض شهادات تكوين قدّمتها جهات رسمية في إطار مشاريع شراكة مع وزارة التربية الوطنية، ومدارس ومعاهد خاصة بمقابل مالي - وأشك أن بعضها وهميّ! - مستغلة البند الذي يكافئ على التكوين بنقط عددية، مقابل قبول شهادات أخرى لتكوينات "كوكوت مينوت" أنجزت في فصل الصيف، برعاية رسمية من النيابات والأكاديميات! كما بقي أساتذة سد الخصاص الذين تجاوزوا 45 سنة عالقين، رغم حصولهم على ترخيص استثنائي من السيد رئيس الحكومة نفسه في آخر يوم من عمر التسجيل الإلكتروني، قبل أن تصدمهم مراسلة وزارية أخرى برفض السماح لهم باجتياز المباراة، بحجة أنهم لم يسجلوا بالبوابة الإلكترونية! كما شهدت اضطرابات ما قبل المباراة تدخل جهات سلطوية يحكمها الهاجس الأمني لا العلمي، لتهدئة بعض المحتجين من جمعيات المعطلين، وذلك بإقحام أسمائهم في لوائح المترشحين المنتقين! علاوة على الإرهاق المجاني المجهد للأساتذة المكونين من جراء عمليات فرز وتدقيق لألوف ملفات الترشيح، وتصحيح ميكانيكي، بشكل ماراطوني، لتقويمات فلكية (بعضها وصل إلى أكثر من 100 سؤال مغلق للمترشح الواحد، في المادة الواحدة، مع العلم أنه يمكن الاستغناء عنها جميعا بسؤال مركب واحد، أو وضعية مشكلة واحدة!)، في ظروف قاسية مرهقة، وصلت إلى درجة أن عملهم كان يستمر طيلة اليوم، وجزءا من الليل! أضف إلى ذلك أن الوحدة المركزية لتكوين الأطر لم
"تكتشف" - يا للعجب! - أن هناك خصاصا مهولا في المراكز الجهوية لمهن
التربية والتكوين في كافة التخصصات، قدرته هي نفسها بـ116 أستاذا مكونا،
إلا نهاية أكتوبر، بعد انطلاق التكوين بمدة، فاضطرت أولا إلى تنظيم "حركة
انتقالية في إطار التكليف" بين أساتذة المراكز، ثم بعدها إلى إصدار مذكرة
لتكليف أساتذة السلك الثانوي التأهيلي بالعمل في المراكز، مع العلم أن
مواد كثيرة أصلا رُقعت لجان مبارياتها ترقيعا منذ بداية شتنبر، مما يؤشر
على العبث وانعدام التخطيط وليس ركاكته فقط، وكأن هناك نية مبيتة مستمرة
لضرب المدرسة العمومية في الصميم!
لكن القشة التي قصمت ظهر الدخول لهذا الموسم، حيث ما انطلق التكوين حتى أوقفته في أسبوعه الأول، كانت هي المرسومان الحكوميان اللذان صادق عليهما المجلس الحكومي في عطلة الصيف، على حين غفلة من جميع المعنيين، واللذان يقضيان بفصل التوظيف عن التكوين، وبتحويل المنصب المالي للأستاذ المتدرب إلى منحة لطالب متدرب، مع تخفيض قيمته إلى أقل من النصف.
سؤال: أصبح معروفا لدى الرأي العام المتتبع لقضايا التربية والتكوين، أن نضالات أساتذة الغد تعود بالأساس إلى هذين المرسومين، في رأيكم أين يكمن أصل المشكل؟ أو ما السياق التاريخي للمرسومين موضع الجدل؟
جواب:لا يمكننا أن نفهم مرسومي فصل التوظيف عن التكوين وتقليص المنحة ما لم نضعهما في سياقهما الجلي، وهو سعي الحكومة إلى خوصصة قطاع التعليم في البلاد. ولكي نفهم الأمر جيدا، لا بد أن نستحضر الضغوط التي ظل لوبي قطاع التعليم الخاص في المغرب يمارسها واقعيا ومؤسساتيا حتى استطاع أن يصل إلى صنع القرار السياسي؛ ولا أدل على ذلك من خارطة الطريق التي وضعها الخطاب الملكي بتاريخ 20 غشت 2013، والتي تضمنت التنويه بضرورة تأهيل القطاع الخصوصي، ثم تصريح رئيس الحكومة الحالي بالنص بأنه قد "حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم"، وأنه "ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخصوصي الراغب في الإشراف على هذه الخدمات".
ولمزيد من الضبط، ننبه إلى أن الأمر بدأ بالميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) الذي نص في دعامته الـ18 على تشجيع القطاع الخاص، لتتلوه اتفاقية 8 مايو 2007 بين الحكومة المغربية السابقة وممثلي قطاع التكوين والتعليم الخصوصي بالمغرب، وهي الاتفاقية التي مكنت المستثمرين الخواص في مجال التكوين والتعليم الخصوصي من امتيازات خيالية، على كافة الصعد العقارية والضريبية والتربوية، بل وحتى التقنية والجمركية، علاوة على تسهيلات أخرى كثيرة! من بينها على سبيل الذكر تسهيل ولوج القطاع الخصوصي إلى العقار العمومي بالتفويت عن طريق الترامي! مع المساعدة التقنية في مجال التعمير! وكذا تمكينه من المقرات والتجهيزات! والإعفاء الضريبي عمّن في ذمته أقل من 20 مليون سنتيم، وإعادة جدولة ما فوق ذلك! علاوة على الاستفادة من صناديق إنعاش الاستثمار! ومن الدعم المباشر من ميزانية الدولة! وكذا من الدعم الخارجي! والاستفادة من خدمات أطر وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي (بما في ذلك الإلحاق)! والاستفادة المجانية من تكوين الأطر الإدارية والتربوية! و – صدقْ أو لا تصدق - تخصيص منح لطلبة التعليم الخصوصي! ثم تلا هذه الاتفاقية الإطار ترؤس رئيس الحكومة – بحضور أكثر من مائة من أرباب التعليم الخصوصي - بتاريخ 8 نونبر 2013 مراسيم توقيع اتفاق بين كل من وزير الاقتصاد والمالية ووزير التعليم العالي من جهة، وبين هذا الأخير ورؤساء الجامعات من جهة ثانية، لتكوين عشرة آلاف (10000) إطار تربوي، في غضون ثلاث سنوات (2013/2016)، وهو الاتفاق الذي كان يتغيّا تأهيل الشباب حاملي الشهادات العليا، عبر الحصول على إجازة مهنية في تدريس مختلف التخصصات العلمية والأدبية والتقنية والرياضية، وفقا للحاجيات المعبر عنها من طرف قطاع التعليم الخصوصي، بغلاف مالي قدره 161 مليون درهم من ميزانية الدولة!
غير أن هذا القطاع الخصوصي تملص من أي التزام له بتوظيف مخرجات هذا التأهيل، واستمر بالمقابل يقتات كالطفيليات على أطر المدرسة العمومية، وعلى المحبطين من خريجي الجامعات؛ وهكذا لم يدمج في سوق شغله إلا 68 مؤهلا من أصل 3500 من مؤهلي سنة 2013! طبعا لظروف مهنية يعرفها الجميع. وبدل أن تتدخل الحكومة هنا لإلزامه بتوظيف كافة مؤهلي البرنامج المذكور، طوت الملف في صمت، واستصدرت مرسوم فصل التوظيف عن التكوين الذي لا مبرر له البتة، إلا توفير مزيد من الشباب المؤهل تربويا للقطاع الخاص.
سؤال: وما المشكل في ذلك؟
جواب: هذا السؤال يجرنا مباشرة إلى الحديث عن واقع اشتغال مستخدمي القطاع الخاص، وهو الواقعُ المُشكلُ الذي جعل ألوفا من العاملين به المجازين يهربون منه بترشحهم لمباراة الولوج إلى المراكز الجهوية المؤهِّلة لوظيفة التعليم في القطاع العام. وأفتح هنا قوسا لأسجل مفارقة مضحكة مبكية، مفادها أن احتمالا غريبا يظل قائما هنا، مفاده أن من نجح من هؤلاء، وظن أنه نجا من ظروف العمل التي تشبه الاستعباد في القطاع الخاص، يمكن ألا يُفتح في وجهه غدا إلا باب هذا القطاع الذي فر منه، ليستأنف استعباده من جديد، وبـ"امتياز"، بعد أن يكون قد تلقى تكوينا بيداغوجيا متخصصا، ونال شهادة التأهيل التربوي!
لعلك أدركت ما أرمي إليه جوابا عن سؤالك؛ فالمشكلة في مرسوم فصل التوظيف عن التكوين أنه وضع العربة قبل الحصان، إذ بدل أن تشرع الحكومة في هيكلة القطاع الخاص وفق كافة القوانين الجاري بها العمل في البلاد، ولا سيما قانون الشغل، تركت القطاع على ما هو عليه، وسعت لتوفير مزيد من "الأقنان" له، مع شهادة التأهيل! ولا يخفى على أحد من المغاربة أنه باستثناءات قليلة جدا، فإن قرابة 50 ألفا من مستخدمي قطاع التعليم الخاص يشتغلون به في ظروف كارثية، من دون نظام أساسي خاص بهم يحدد الواجبات والحقوق، في واقع شبيه بالإقطاع أو السخرة، حيث لا ترسيم، ولا تحديد لساعات العمل، ولا تعويضات عن الأعباء والأولاد، ولا رخص، (هل يمكنك أن تتصوّر أن إنسانا ما ليس له حق في رخصة مرضية أو استثنائية!!) ولا ترقية، (باستثناء زيادات زهيدة بطيئة كل بضع سنين!)، ولا تغطية صحية ولا اجتماعية، ولا تقاعد، ولا حق في التنظيم النقابي... حيث تنطبق عليهم أنياب تجار مقاولات التعليم الخصوصي، بأجرة تبدأ بـ 500 درهم، وتصل بشق الأنفس إلى 2000، ولا تحلم بالحد الأدنى للأجور إلا فيما ندر، مع العلم أن كل ذلك لا يساوي غير الفُتات بالمقارنة مع الأرباح الفاحشة التي يجنيها أرباب ذلك القطاع، في ظل تواطؤٍ مشين من مفتشي الشغل المرتشين. ولا داعي لذكر المعاملة المزاجية الحاطة من الكرامة، المرهقة نفسيا وبدنيا، حيث لا يحق للأستاذ أن يحتج على شيء، بما في ذلك عدد الساعات، أو الأقسام، أو المستويات المسندة إليه، ولا يحق له أن يتخذ إجراء تأديبيا تربويا إزاء "أولاد الفشوش"، ولا يحق له أن يثبت نتائج الفروض والمراقبة الموضوعية إن أتت بأقل من نقط عالية، وويل له إن اشتكى منه تلميذ أو ولي أمره، بل ولا يحق له أحيانا حتى أن يجلس في مكتبه والمتعلمون منهمكون في الكتابة، بل وأحيانا أخرى تبلغ الوقاحة ببعض المديرين من "أصحاب الشكارة" أن يطلب من الأستاذة أن تلبس كذا أو كذا من أشكال اللباس، أو أن تنظف المؤسسة بعد ساعات العمل!! تحت طائلة تهديد مفتوح بالطرد في أية لحظة! ولا شك أن قطاعا مثل هذا لا يشرف المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين أن تؤهل له أطرا تربوية ولا إدارية، ولا يقبل ذو كرامة الاشتغال لديه إلا مكرها، وهذا من أهم أسباب ثورة الأساتذة المتدربين في وجه المرسوم المذكور، وإضرابهم المفتوح إلى هذه اللحظة.
سؤال: في إحدى مقالاتكم القوية بأحد المنابر الإعلامية، أشرتم بأصابع الاتهام إلى اختباء "لوبي التعليم الخاص" خلف الأزمة الحالية؛ ألا ترون بأن التزامات الدولة المغربية تجاه البنك الدولي يمكن أن تبرر مسألة فصل التكوين عن التوظيف؟
جواب: لا شك أنك تقصد مقال "الشيطان الذي يختبئ خلف مرسوم فصل التوظيف عن التكوين"، والذي اقتبست كثيرا من معطياته أعلاه، وهي المعطيات التي كانت مندسة خلف قناع "الجودة" قبل أن تتكشف الصورة الكاملة فيما بعد.
أما بخصوص البنك الدولي، فدعني أولا أذكّر القراء الكرام بأمرين أضحى الجميع يعرفهما: أولهما أن ارتهان الدول والكيانات للمؤسسات الدائنة تطويق لأعناقها بحبل العبودية الجماعية، وارتماء في أحضان التبعية، مما يهددها بفقدان القدرة على اتخاذ القرار السيادي. وثانيهما أن المنطق الربحي لتلك المؤسسات لا أخلاق له إلا أخلاق المُرابين الجشعين؛ ومعنى هذا أن مصالح الشعوب وكرامتها ليست في حسبانها البتة. وإن شئت أن تفهم الأمر معاينة، فانظر إلى جنايات مؤسسة "القرض الفلاحي" على الفلاحين الصغار والمتوسطين عبر مكر الديون، وكيف أنه حوّلهم من مُلاك أراض إلى مجرد أُجَراء بائسين في مصانع المدن المجاورة، أو متسولين في أسواقها المزدحمة، بعد أن سلبهم أراضيهم.
لا تستهدف شراكة البنك الدولي مع المغرب، باعتباره مؤسسة ربوية نيوليبرالية متوحشة، غير الربح الخالص، في أفق استعباد الشعوب، وسلبها ثرواتها واستقلال قراراتها ووجودها؛ ولذلك يلح باستمرار على الدول المَدينة له بتقليص الإنفاق على الشأن العام، وخوصصة القطاعات الحيوية، كي يضمن استخلاص أمواله أضعافا مضاعفة من خالص ثروات البلاد وضرائبها على مواطنيها الذين – وفق هذا السيناريو الرهيب – سيؤدون الضرائب صاغرين، دون أن ينالوا مقابلها خدمة "عمومية"!! هذا مفهوم. غير أن الذي وقع مع مرسوم فصل التوظيف عن التكوين هو أن الحكومة لم تسر في اتجاه خوصصة التعليم فحسب، ولكنها دلّلت الخواص بتوفير الأطر المؤهلة علميا ومهنيا لهم مجانا، وهنا مكمن تدخل لوبي باطرونا القطاع الخاص الذي يعدّ امتدادا للقيم الرأسمالية الانتهازية العارية عن كل معنى إنساني.
وأفتح هنا قوسا عرضيا لأذكّر ببديهة مفادها أن القطاع الخاص – حتى لو افترضنا أنه تمت هيكلته وفق قانون الشغل – مُطالب بتكوين أطره بنفسه، ومن فائض أرباحه الخيالية، لا من المال العام المتحصل من دافعي الضرائب، والذي لا وجه لصرفه إلا في الصالح العام. وحين يكوّن أطره التكوين الذي يريد، من حقه أن ينظم لهم مباراة التوظيف بالمواصفات التي يريد. إن جشع فكرة تحقيق أكبر ربح، في أسرع وقت، وبأقل كلفة، أو بلا كلفة، لا تليق البتة بمستثمر في قطاع تربوي لا يجوز فيه الاستثمار النفعي أصلا، لأن التعليم حق ينبغي أن يتاح الوصول إليه لكل الراغبين فيه، دونما أية قيود أو حواجز دينية أو إثنية أو اجتماعية أو مادية، وليس سلعة تباع وفق قيم السوق، وإلا فانتظر أن ترى فيه كل ما يكتنف بيع السلع الأخرى، من غش وتزوير واحتكار وإشهار كاذب ماكر ومنافسة غير شريفة... ما دام المستثمر لا يسعى لغير الربح السريع. لذلك كان التعليم من أوائل الواجبات التاريخية في عنق الدولة الحديثة بموجب العقد الاجتماعي. بل لقد أصبح توفير حق التعليم للجميع، ولا أقول "التعليم المجاني" كما يغالط في تسميته بعضهم، مؤشرا مهما من مؤشرات تقدم الدول، ورقي المجتمعات، بينما تؤشر رسملة المعرفة، وتسليع التعليم على انتهازية طبقية خِلوٍ من قيم المواطنة.
سؤال: من بين تبريرات الحكومة للمصادقة على ذينك المرسومين تحقيق جودة التعليم، ما رأيكم في المسألة؟
جواب: هذه الجودة المطلقة هي ما ذكره مسؤولون حكوميون في البداية، لكن ما أخفوه عنا، وبشكل مراوغ، هو أي جودة تلك؟ وحينما اضطر وزير التربية الوطنية، ووزيره المنتدب، ووزير التعليم العالي، بل ورئيس الحكومة نفسه، إلى الاعتراف فيما بعد أن الأمر يتعلق بجودة التعليم الخصوصي وحاجياته، اتضحت الرؤية بما رفع التلبيس السابق الذي كان يختفي فيه المرسومان خلف مطلق الجودة؛ إذ معنى ذلك أن الأمر فُصل على مقاس قطاع التعليم الخصوصي حصرا. ولنقصر الحديث على مرسوم فصل التوظيف عن التكوين، أما مرسوم تحويل المنصب المالي للأستاذ المتدرب إلى منحة، مع تخفيض قيمته، فلا أرى له أي وجه للإقحام في موضوع الجودة.
حين تعلم أن الخصاص في كافة أسلاك التعليم العمومي للموسم المقبل يقدر بحوالي 20 ألف إطار، أليس توفير هذه الأطر هو بداية الحديث عن الجودة؟ وحين تنصت لعموم المغاربة وهم يشتكون باستمرار ومرارة من اكتظاظ الفصول الدراسية بأولادهم، إلى أن بلغ عددهم في بعض الأقسام ما يؤهلها لتدخل كتاب غينس للأرقام القياسية، أفليست تقتضي الجودة – لحل هذا المشكل - التدخل العاجل لتشغيل الشباب المؤهل، وعدم تعطيل طاقاته العلمية والمهنية، وتأهيل البنيات التحتية لتوفير ظروف عادية (ولا أقول بعدُ جيدة) تقارب المعدل العالمي لعدد التلاميذ في القسم، مما يسمح بمضاعفة فرص التفاعل الصفي بين المتعلمين والأستاذ، وبالتالي تحسين تعلمهم؟ أليست الجودة كذلك تقتضي التوقيف النهائي لهاتين البدعتين المغربيتين الغريبتين اللتين اسمهما "الأقسام المشتركة" و"المواد المتآخية"، وكلاهما ناتج عن الخصاص في الأطر التربوية. فأيهما أولى هنا: سد الخصاص أم تدليل القطاع الخاص؟
حينما يختار المسؤولون عن قطاع التعليم والتربية أن يضعوا رؤوسهم في الرمال لكي لا يروا كل تلك المشاكل التي يتخبط فيها التعليم العمومي، وتفرغه من جودة الشكل والمحتوى، ثم يستصدرون مراسيم تضمن جودة الأطر التربوية للتعليم الخصوصي المستقل الذي لا يتجاوز عدد المتعلمين في أقسامه (أو أقفاصه) الـ25، ولا يعرف أقساما مشتركة، ولا مواد "متآخية"، فإنك لن تتردد في وصف كل من يساهم في تنزيل هذا المكر بمجرمي التعليم الذين يسعون إلى تخريب المدرسة العمومية الأم التي تخرجوا منها - وبئس العقوق - تخريبا منهجيا، لصالح عمارة قطاع التعليم الخاص وازدهاره!
وفوق ذلك فإن الجودة مفهوم مركّب مندمج متكامل، يشمل كلا من البرامج، والمناهج، ونظم الدراسة والتقويم، ومؤهلات التسيير الإداري والمالي والتأطير التربوي، ومدة التكوين الأساس، (وأستغرب هنا التجاهل الرسمي للشكاوى المتكررة من أغلب الأساتذة المكونين بالمراكز الجهوية من عدم كفاية الحيز الزمني للتكوين محصورا في بضعة أشهر!) والتكوين المستمر مدى الحياة، والاهتمام البحث العلمي والتربوي بنيات وإنجازا، والقوانين المنظمة للعمل، والقدرة على إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة وفق تربية متخصصة، ومقرات الدراسة، وتجهيزاتها، وتوظيف تكنولوجيات الوسائط المتعددة، والتحكم في مختلف أصناف المهارات، والإنتاجية، والأنشطة المندمجة والموازية، ونسبة المساهمة في سوق الشغل والتنمية البشرية والاجتماعية، وكذا نسبة الولوجية إلى المعاهد والمدارس العليا والجامعات المرتبة عالميا في مراتب محترمة، إلى غير ذلك من مكونات العملية التعليمية التعلمية ومتعلقاتها، وليست "الجودة" كما يروَّج لها بين المغاربة – بسبب تخريب المدرسة العمومية، ولأغراض شتى في نفوس تجار مؤسسات القطاع الخاص – محصورة فقط في عدد المتعلمين في كل قسم، وعدم غياب أي أستاذ لمرض أو إضراب، وحصول المتعلم على معدلات عالية.
سؤال: رغم كل ما ذكرته من قبل، فإن كثيرين يرون أن القطاع الخاص يلعب دورا في تحمل جزء كبير من توفير تعليم بمواصفات معينة للآباء وأولياء التلاميذ؟ كيف ترون راهن التعليم الخاص بالمغرب؟
جواب: ستتفاجأ إن لفتتُ انتباهك الكريم إلى أن أغلب التعليم الخصوصي بشكله الراهن – ودعنا من الذي يشتغل لحساب البعثات الثقافية الفرنسية بالوكالة، ومن الذي يبيع الوهم - لا يبيع لأولاد الناس بأثمان باهظة – في أحسن الأحوال – إلا ما كان ينبغي للتعليم العمومي أن يقدمه لهم باعتباره حقا لهم، بـ"مجانية"، وبكامل الأريحية، لو توافرت له البنيات المناسبة، وقبل البنيات النية الصادقة لإصلاحه. فأي مكر هذا الذي يدفع الآباء إلى الإنفاق على أفلاذ أكبادهم أقساطا كبيرة قد تلتهم نسبة مهمة من أجرتهم، لا لشيء إلا ليتعلموا الحروف والحساب والتواصل الشفوي، ولا سيما بالفرنسية، في أقسام قليلة العدد، ومع انضباط وحضور فعليين للـ"أساتذة"؟؟ كيف لم يعد بإمكان المدرسة العمومية أن تحقق هذه المواصفات البدهية، لتقدم ما قدمته لأجيال كثيرة في وقت لم يكن يلجأ فيه إلى المدارس الحرة الخاصة إلا المفصولون ممن لم يستطيعوا مواكبتها؟ لا ريب أن المستفيد من الربح عبر "بيع" هذه الخدمات البدهية هو الذي يكمن خلف الحيلولة بين المدرسة العمومية وبين توفيرها، ويسعى في خرابها بكل ما أوتي من سلطة إدارية، ودعاية إعلامية، وقنوات تشريعية...
وفي هذا الخراب، خراب المدرسة العمومية، يستثمر الخواص بالمغرب، وهم في الغالب من ذوي الأموال الذين يفتقدون إلى أي مؤهلات علمية أو بيداغوجية، إلى درجة أنه يمكنك تشبيه الصورة إلى حد بعيد برتع قطعان من الذئاب في مراعي خصيبة واسعة للغزلان، لكنها غير حصينة، وبلا رقابة؛ لذلك كان طبيعيا أن تسمن الذئاب وتتكاثر، وتنحسر رقعة المرعى، وتزداد الغزلان الوفيرة خوفا. إلى درجة أنه بإمكان أي كان أن يفتتح مدرسة خاصة، بمجرد امتلاكه رصيدا بنكيا، ومبنى (هو في الغالب فيلا) ومقاعد، وصباغة لرسوم بهيجة على الجدران، وبضعة نفر، مع التسهيلات الخيالية التي سبق أن تحدثنا عنها. وهكذا تتزاحم المؤسسات الخاصة على جيوب المواطنين، مما يولد حيرة كبيرة لدى الناس بخصوص اختيار أفضل المدارس، (أو أرخصها أو أكثرها خدمات...) في غياب أي ترتيب أو تصنيف لتلك المدارس، على غرار تصنيف الفنادق. وفي غياب أي تدخل من طرف الدولة، لا تفتأ تلك المؤسسات ترفع رسوم التسجيل و"التأمين"، وواجبات الدراسة والنقل، سنة بعد أخرى.
قد تقول لي إن وصف "الذئاب" قاس في حق تجار المدارس الخاصة. أقول لك إن ذلك تعبير مهذب، لأن أغلب زبنائهم "المكرهين" يصفونهم باللصوص ومصاصي الدماء و"كروش الحرام"، لما أضحوا يمارسونه في حق عرق جبينهم من استنزاف وصل برسوم التسجيل إلى أكثر من 1500 درهم في بعض المؤسسات المشهورة (ومعدلها في الغالب هو 600 أو 700)، وإلى مبالغ شهرية ضخمة مقابل التدريس، خلا مصاريف النقل، والدعم، والأنشطة، والكتب المجلوبة من فرنسا، وأكوام الأوراق والأدوات، وأحيانا مصاريف المقصف والنظافة وغيرها من "الحاجيات" التي تخترعها باستمرار، محولة حياة الأسر وميزانياتهم إلى جحيم. فقل لي بالله عليك، أي مبرر مثلا لرسوم التسجيل تلك في غياب أي خدمة تذكر، باستثناء تأمين هزيل متلاعب فيه؟ أليست غير "سرقة" محمية بالقانون؟
إن توخي مرسوم فصل التوظيف عن التكوين توفيرَ أطر تربوية مؤهلة للتعليم الخصوصي، يتضمن إقرارا ضمنيا بعدم الكفاءة المهنية للأطر العاملة بذلك القطاع، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول عمل تلك المؤسسات، ومردوديتها، بعيدا عن الدعاية الفجة التي تروجها هي بنفسها حين تعلق ملصقا على أبوابها من قبيل "نسبة النجاح في الموسم الحالي 100 في 100"، أو "مؤسستنا حصلت على أعلى معدل في النيابة أو الجهة"، أو تروجها لها وسائل دعاية مرئية ومسموعة ومقروءة متعددة، على علاقة نفعية أو تمويلية أو تجارية بها. في حين تغيب أي دراسات علمية ميدانية حول تلك المردودية المزعومة، وظروف التمدرس، وظروف العمل، وإنتاجية القطاع، ومساهمته في التنمية البشرية والمحلية، وغير ذلك، مما يجعل أي مراهنة عليه مغامرة كبرى... ومن تجرّأ من أرباب القطاع الخاص على إنكار ما ذكرته فليُرنا ما هو صانع في حال ما إذا فتحت السوق المغربية أبوابها للمنافسة الخارجية في مجال التجارة بـ"سلعة" التعليم. أذكُر أن بلاغا لهيئة أرباب التعليم الخاص بالمغرب اشتكى من الإفلاس لمجرد توقيف الوزير محمد الوفا تراخيص الأطر التعليمية العمومية للعمل في المؤسسات الخاصة، فكيف بهم لو أن الأمر أضحت فيه منافسة حقيقية بمعايير الجودة المعتمدة دوليا؟
سؤال: كخلاصة، كيف تعتبرون نضالات أساتذة الغد؟
جواب:احتجاجات الأساتذة المتدربين على مرسومي الفصل والمنحة جاءت نتيجة استشراف للأفق المكفهر الذي ينتظر فئة عريضة منهم في حال ما ابتُلوا بالعمل في قطاع التعليم الخصوصي مضطرين، وهو الأفق الذي رسمنا بعض معالم الاستعباد فيه قبل قليل. وعليه، فإن نضالهم ضد مرسوم فصل التوظيف عن التكوين خاصة، هو نضال يمكن قراءته وفق مؤشرين:
- مؤشر إسماع صوت قطاع واسع من المقهورين الذين تكبلهم أصفاد مؤسسات التعليم الخصوصي عن البوح العلني بأية معاناة، فأحرى النضال ضدها، من أجل الحق في الكرامة والالتزام بقانون التشغيل.
- ومؤشر الوعي بضرورة المدرسة العمومية التي تضمن الحق في التعلم لكافة المواطنين، في ظروف مناسبة، توفر - أول ما توفر – الأطر الكافية لسد الخصاص، ولإنهاء العمل بالحلول الترقيعية التي سئمنا منها، من مثل الأقسام المشتركة والمواد "المتآخية" أو "المتجانسة".
وكلا المؤشرين تلهمهما روح فدائية بروميثية لا أملك إلا تحية الأساتذة المتدربين على التحلي بها، بعيدا عن كل أنانية مرحلية لا تتوق إلا إلى الخلاص الفردي لهذا الفوج من المتدربين، وبعيدا أيضا عن كل تبخيس لواجب استيفاء التكوين الضروري لممارسة أشرف المهن، ورسالة الأنبياء.
وفي مقابل شدي على أيدي الأساتذة المتدربين لتحقيق هذين الهدفين النبيلين، أدعو الحكومة إلى ضرورة تصحيح الخطأ بالإنصات إلى صوت الشارع الذي يشكل القوة الناخبة، وذلك بالتراجع عن كل ما يقوي شوكة لوبي القطاع الخصوصي، في التعليم وغيره من القطاعات الحيوية، كيف لا والسيد رئيس الحكومة نفسه قد اعترف بشجاعة بأن خوصصة "لاسامير" كانت خطأ، بل "غلطا كبيرا"؛ واستئناف الشجاعة هنا لا يترك أي فرصة للاختيار، على اعتبار أن الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد الذي يستفيد من تجاربه السابقة، ولا يعيد إنتاج مشاكله. ولأذكّر الجميع أن الدساتير نفسها تعدّل، فأحرى مرسومان بدت مساوئهما، وخلفا سخطا اجتماعيا واسعا.
سؤال: أجدد شكري لكم الأستاذ سعيد عبيد على هذا الحوار الممتع..
جواب: العفو، على الرحب والسعة، أكيد كانت فرصة تقديم وجهة نظري حول الموضوع، والمساهمة في إثراء النقاش الوطني حول قضية حقيقية تهم الرأي العام، وتمس بشكل جوهري مستقبل التعليم ببلادنا، تحياتي لكم ولقرائكم.