ـ نورالدين الطويليع
في ظل الخصاص المهول في الأطر التربوية الذي ترزح تحت وطأته المدرسة العمومية، اضطرت المديريات الإقليمية التابعة لوزارة التربية الوطنية إلى العمل بسياسة "اثنان في واحد" عن طريق إفراغ قسم في قسم آخر، لتفييض أكبر قدر ممكن من المدرسين، ووضعهم من ثمة رهن إشارتها من أجل ملء الفراغ في هذه المؤسسة أو تلك، أمام شساعة الخرق الذي اتسع عن الراقع التربوي، ودفعه إلى نهج أسلوب القذف في جميع الاتجاهات، أو بمعنى آخر ترحيل الأساتذة إلى جماعات بعيدة عن مقار سكناهم بما يزيد أحيانا عن أربعين أو خمسين كيلومترا، دون استحضار الظروف الاجتماعية للمُرَحَّلِين والمُرَحَّلات الذين قد يضطرون إلى الغياب عن المنزل لساعات طويلة، تجعلهم لا يلتقون بأبنائهم إلا بعد غروب الشمس ليهيؤوا لهم أفرشة النوم، خصوصا مدرسو التعليم الابتدائي المفروض عليهم أن يعملوا بنظام الحصتين، الصباحية والمسائية، والذين لا خيار لهم إلا البقاء بالمؤسسة أو الذهاب إلى المقهى في انتظار الشوط الثاني المتمثل في حصة ما بعد الزوال.
إن وضعا هذه سماته يشتت ذهن المدرس ويجعل معنوياته في حضيض الحضيض، فعوض أن يهتم بوضعية الفصل وبصيرورة تعلمات تلاميذه ومواكبتهم بالتقويم والدعم ورصد العوائق التي تحول بينهم وبين التحصيل الجيد، ووضع الخطط التربوية،من ثمة، لاجتثاثها، عوضا عن كل هذا سيكون في شغل يغنيه، بل يغيبه تماما عن جو الفصل، لأن تركيزه سينصب حول البيت والأبناء وظروف التنقل ومصاريفه وعقباته، وهو انصراف سيغذيه كذلك إحساس مستمر بالفتور والتعب والعياء النفسي والجسدي، بما سيحوله إلى قطعة عذاب تحرق نفسها وتحرق من أوكل إليه أمر تدريسهم، وهذا يذكرنا بقولة المفكر الراحل محمد عابد الجابري في كتابه "من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية": "المعلم ظالم داخل الفصل، مظلوم خارجه"، فهو من جهة ضحية لسياسة لا تربوية، تنظر إليه كرقم، لا يهم أن يكون بمدلول أو لا يكون، معتبرة إياه آلة عاملة مبلدة المشاعر، لا بأس من تنقيلها وفق ما تقتضيه الحاجة، بصرف النظر عن مدى تساوق هذا التنقيل "التعسفي" مع ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والجسدية، وعن المضاعفات السلبية المتعددة التي قد يخلفها، بما يجعل منه ضحية بامتياز، يشعر بظلم كبير قد يحوله بدوره ليظفر بما ظفر به من ظلموه، مادا حبل ظلمه إلى رقاب متعلمين لا ذنب لهم ولا جرم سوى أنهم أبناء مدرسة عمومية وسليلو طبقة كادحة لا يملك آباؤهم الكفاية المادية لإلحاقهم بالمدرسة الخصوصية، ولا يجدون إلى ذلك سبيلا، مكتفين بالتفرج بعيون باكية وقلوب دامية على واقع أبنائهم البئيس وهم يحدثونهم عن إخبار مديري مؤسساتهم لهم بلزوم البيت أسبوعا أو أسبوعين إلى حين استئناف مدرسيهم عملهم بعد انقضاء أمد مدة الشهادة الطبية الممنوحة لهم، أو يحدثونهم عن الإعياء الظاهر على هؤلاء المدرسين، واكتفائهم بالجلوس فوق الكراسي، ووضع أيديهم على رؤوسهم، تاركين إياهم يمرحون ويلعبون، أو يبثون إليهم شكواهم من تلقي وجبات دسمة من السب والشتم والضرب الناتج عن شحنات توتر زائد جعلهم يفقدون التحكم في أعصابهم، ولا يطيقون، ولو أدنى حركة منهم، معتبرين إياها شغبا وإفراطا في التحدي.
بهذه الثنائية الضدية للذات التربوية الظالمة/المظلومة، المعتدية/المعتدى عليها، تكون الوزارة الوصية قد دقت مسمارا آخر في نعش المدرسة العمومية، وضربت بيد من حديد مصداقيتها، وذهبت بعيدا في عالم الارتجالية والتخبط، وتخلت بشكل قد يكون نهائيا عن شعار الجودة الذي رفعته ولهج لسانها به كثيرا، وربما، وحتى لا تشيعها إلى مثواها الأخير لا بد من أن تتدارك الموقف، من خلال تكريم رجل التعليم الذي هو الركن الأساسي في العملية التعليمية التعلمية برمتها، وأول إجراء بهذا الصدد يجب أن ينصب على استحضار الظروف الاجتماعية لرسول المعرفة، والتخلي عن سياسة "الترحيل" خارج الجماعة، وحتى وإن حصل، فالوزارة هي من يجب أن يوفر وسيلة له نقل مريحة وتحفيزات مادية ومعنوية، ويوفر لأبنائه حواضن تجعله مطمئن البال في منأى عن كل المشتتات ونواقض اليقظة التعليمية، وهو يمارس طقوسه التربوية داخل الفصل.