اليوم الأول
استيقظ في الصباح الباكر وهو مفعم بالحيوية والنشاط، التهم إفطاره بنهم كبير ثم مضى مسرعا إلى العمل. اليوم يومه الأول في مهنة التوجيه ولا يريد بأي حال من الأحوال أن يتخلف عن لقائه مع الطاقم الإداري والتربوي للقطاعات المدرسية التي أسندت إليه.
استقل الحافلة الوحيدة التي تغامر يوميا بالسفر عبر الطريق الملتوية حول جبال الأطلس الصغير كثعبان الاناكوندا المخيف.
خفق قلبه لمنظر الأخاديد العميقة التي مرت من فوقها الحافلة فحملته ذاكرته إلى مشاهد أفلام رعاة البقر وكانيونات الغرب الأمريكي التي كان مولعا بها في صباه.
فارق بسيط: رعاة الماعز عوض البقر والحمير عوض الأحصنة وسجائر كازا سبور عوض المارلبورو الأمريكية الشقراء.
هنا الجنوب المغربي المنسي الذي ينصهر فيه البشر والحجر في كل شئ.
تذكر مقامه في الرباط والخطابات الجوفاء للمسؤولين حول واقع التعليم في هذا البلد والتي تقول كل شئ إلا الحقيقة التي يعرفها الجميع ويتنكر لها أصحاب الكروش الضخمة المترهلة خلف المكاتب الوتيرة ومكيفات الهواء.
استرعى انتباهه شباب في مقتبل العمر وهم ينزلون من الحافلة للالتحاق بالفرعيات أو المركزيات أو الملحقات أو...المتناثرة في هذا الربع الخالي لا رقيب عليهم سوى ضميرهم المهني الذي يغتصبه المسؤولون ″الكبار″ مرارا وتكرارا أمام العدسات والميكروفونات ليوهموا المغاربة أنهم وحدهم هم الشرفاء وما دونهم دهماء وغوغاء.
توقف هدير المحرك أخيرا أمام مدخل السوق الأسبوعية للقرية التي تم تعيينه بها. ترجل ببطء شديد لان قدماه تنملتا من طول الرحلة وقصد الثانوية الأولى في القطاع للتعرف على المدير. وجده غارقا في كومة من الأوراق يستقبل وحيدا أفواج التلاميذ وآبائهم لامعين له إلا أعوان الحراسة.
إدارة ومدير.لا اقل ولا أكثر. لا ناظر، ولا حارس عام، ولا مقتصد، ولا كاتبة...استقبله بترحاب كبير واعتذر عن الفوضى التي تعم مكتبه الصغير ثم دعاه لزيارة المؤسسة.
خاطبه مبتسما: - لولا أعوان الحراسة الذين يتطوعون لمساعدتي لكنت في خبر كان، لكن الحمد لله على كل حال، لا تقلق، سنتدبر أمورنا. كيف مر الاجتماع الأول مع النائب الإقليمي؟
- عادي جدا، لقاء ثرثرة وكلام لأزيد من أربع ساعات وكأننا في مقهى حول كؤوس الشاي.
- الكلام للأسف الشديد هو ما يجيده المسؤولون في هذه الوزارة لكن الواقع لا يرتفع والحال منصوب كما ترى.
- كدت أنسى، لقد انتقد بشدة طريقة تعاملكم مع أعوان الحراسة وقال بان مكانهم الطبيعي هو أمام أبواب المؤسسات التعليمية وليس داخل الإدارة.
- لو كان النائب مكاننا في هذه الربوع المقفرة لاستعان بالجن وليس بالإنس فقط.
- صدقت، هؤلاء التكنوقراط غارقون في محيط من القوانين والتفاصيل التقنية، ويسبحون في بحر من الأوهام لا علاقة لها بالواقع، لكن ما العمل؟
- دعك من هذه المنغصات وتعال نحتسي كأسا من الشاي بالنعناع المحلي، انه لذيذ جدا.
تابعه بصمت وهو يستغرب من البساطة والعمق التي يتعامل بها المديرون مع اكراهات الدخول المدرسي وضغوطاته التي لا تنتهي مقابل تعقيد وسطحية المسؤولين حول مشاكل مزيفة يختلقونها لزيادة أوسمة الشرف الوهمية على أكتافهم وكأنهم جنود حقيقيون في ساحات الحرب الطاحنة.
من أي طينة صنع هؤلاء القادة المزيفون؟
والى أين يسير بنا هؤلاء؟
أعادته رائحة الشاي إلى الواقع والى ابتسامة المدير وهو يناوله الكأس الزجاجية المرصعة بالألوان، فضحك في قرارة نفسه من تناقضات هذا النظام التربوي التي لا تنتهي.... يتبع
محمد ازرور
مستشار في التوجيه التربوي