عبد الحق الحاج خليفة
مكسبان أساسيان تم التفريط فيهما بسبب الانفتاح الانبهاري على التجربة الفرنسية في تدريس الفلسفة ، وشكّل تضييعهما عاملا أساسيا في حرمان المتعلمين من الإحساس بالأمن المعرفي وفي ضعف الحصانة والمناعة لديهم أمام كل أنواع الإغراء والاختراق.
المكسب الأول الذي تم تضييعه، هو إقصاء تاريخ الفلسفة من مقررات السنة الختامية من الباكالوريا وإحلال التفلسف محلها أثناء وضع المقررات الدراسة المتتالية بعد الإقصاء الممنهج بنيّة مبيّته ومع سبق الإصرار لمقرر"دروس في الفلسفة". وذلك من خلال رفع شعار "التفلسف كبديل للفلسفة" من طرف من تم تكليفهم بوضع مقررات جديدة لهذه المادة، متأثرين في ذلك وبشكل انبهاري بالتجربة الفرنسية التي اعتبرت في نظرهم نموذجا يُحتذى. وهكذا تم استبعاد تاريخ الفلسفة كمدخل ضروري وكبداية ومنطلق للتعامل مع هذا النمط في التفكير، والذي يشكل الجسر الوحيد الذي يمكن أن يفضي إلى التفلسف كهدف تربوي منشود لا يستقيم تحقيقه بشكل معزول دون استيعاب وتمثل القدر المطلوب والضروري من تاريخ الفلسفة ومند نشأتها مع الفلاسفة الأوائل. وبالتالي حُرم المتعلمون من متعة التأمل في الطفرة النوعية التي أحدتها العقل بانتقاله من الميتوس (الأسطورة) إلى اللوغوس ( العقل) أي الانتقال من الأسطورة إلى الفلسفة من خلال التساؤل عن أصل العالم ووضع المتعلم أمام تحدي التفلسف بإقحامه ضمن مشاغل الفلسفة وتساؤلاتها. إذ عليه أن يختار وأن يتحمل مسؤولية اختياره بين العناصر الأربعة التي أرجع الفلاسفة الأوائل أصل الكون لها، هل الماء أم الهواء أم النار أم التراب؟ إنه الاختيار الأول الذي سيكتشف المتعلم فيما بعد أنه توريط له – بالمعنى الإيجابي- في التفلسف من خلال تموقفه إلى جانب هذه الأطروحة أو تلك، وسيكتشف أن هذا الذي وجد نفسه أمامه بفعل وُلوجه عالم الفلسفة عبر تاريخها هو نوع من الحرية كما سيحدده الفلاسفة اللاحقون من أمثال سارتر بتأكيده على "اختر وتحمل مسؤولية اختيارك، لأنك حينما تختار لا تختار لنفسك فقط بل لبقية الناس " كل ذلك تم التفريط فيه مع المقررات الجديدة، لفائدة ما اعتقد أنه البديل لإشاعة قيم العقلنة والتساؤل والنقد والحوار، وهو إحلال التفلسف محل الفلسفة تحت ضغط أجرأة شعار : "وداعا أيتها الإيديولوجيا فالبيداغوجيا قادمة" وبالتالي المجازفة بوضع مقررات تحرص على تلقين المتعلمين وتحتّهم على ضرورة اكتساب - ولو عن طريق الحفظ والاستظهار- مجموعة من المهارات والتقنيات المساعدة على قراءة النصوص وفهمها وتحليلها كبنيات مغلقة، بمعنى فصل الفلسفة عن التفلسف أو بالأحرى الرهان على تحقيق التفلسف بعيدا عن تاريخ الفلسفة، نظمت من أجل هذه الغاية لقاءات وندوات مركزية وجهوية لكن ودون جدوى، إذ كيف يجوز الحديث عن التفلسف في غياب الحد الأدنى من المعارف ذات الصلة بتاريخ الفلسفة. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ المرحوم محمد عابد الجابري في الفصل الثالث: من الكتاب المدرسي"دروس في الفلسفة" في محور "الفلسفة وتاريخها" :" والواقع أن الفلسفة وتاريخ الفلسفة جانبان مرتبطان من الصعب الفصل بينهما.إن دراسة أفكار أي فيلسوف ما ، كثيرا ما تضطرنا إلى الرجوع إلى أفكار فلاسفة آخرين سبقوه أو عاصروه. إننا لا نستطيع أن نفهم فلسفة سارتر مثلا فهما فلسفيا ، إلا إذا استحضرنا في أذهاننا كثيرا من جوانب تفكير فلاسفة آخرين كهيدجر و هوسرل وماركس وهيجل، كما أن فهم فلسفة ماركوز-الذي ينعت الآن بأنه فيلسوف العصر،عصر الثورة التقنية- يتطلب منا الرجوع إلى فلسفة ماركس ونظريات فرويد في التحليل النفسي بل إلى فلسفة كانط وهيجل ...وهلم جرا..وهكذا فإن دراسة الفلسفة لا تعني في الحقيقة أكثر من دراسة تاريخها..."ص12 . ذلك أنه وبعد فشل محاولة الإجهاز المباشر على الفلسفة من خلال التلويح بقرار إغلاق الشعبة ، وبعد اللجوء إلى تشجيع الدراسات الإسلامية في الجامعة على حساب شعبة الفلسفة، تم اللجوء بموازاة ذلك إلى أدهى حيلة وهي ضرب الفلسفة من الداخل أي من قبل أهلها ودويها . ففي سياق ما عرف بأجواء المصالحة، ووصول بعض النشطاء المتخرجين من شعبة الفلسفة والعلوم الاجتماعية بعد القيام بالمراجعات الفكرية التي عبدت أمامهم الطريق نحو مناصب عليا، سارعوا بتفعيل اجتهاداتهم وتصوراتهم في البرامج والمناهج، وهكذا اصبح الهاجس الوحيد لديهم هو التسريع بأجرأة التجربة الفرنسية لتدريس الفلسفة وبدأت المحاولات الأولى بتغيير المقرر الدراسي وفق تصور نظري يحكمه هاجس التفلسف عوض الفلسفة، ومن تمة وضع كتاب مدرسي يتضمن موضاعت أخذت حرفيا من المقررا الفرنسي وبنفس التصور والمنهجية المقترحة المسماة الدراسة المنظمة للنص التي انتهى عهدها تم تلتها بعد ذلك المقاربة الموضاعاتية المعمول بها حاليا ...قبل أن يستقر الحال على المقررات الحالية بكتب مدرسية ثلاثة وبموضاعات لا رابط بينها ، بل يحكمها تصور يتأسس على ألا يكون أي ربط بين هذه المواضيع طالما أن الغرض ليس هو الفلسفة ، بل هو التفلسف فقط ربما لتجسيد قناعة جديدة بعد المراجعات المذكورة لتصفية الحساب مع الإيديولوجيا وذلك برفض الفلسفة والاكتفاء بالتفلسف دون وعي بأن في رفض الفلسفة سقوط في أسوء الفلسفات أو الإيديولوجيات.
المكسب الثاني الذي تم التفريط فيه، هو الإقصاء التدريجي للفكر الإسلامي من مقررات الفلسفة ، لقد كان المقرر الدراسي الخاص بالفكر الإسلامي الموازي ل "دروس في الفللسفة" مناسبة للاطلاع والتفاعل مع إشكالية الحكمة والشريعة أو العقل والنقل، وما اثير حول هذه القضايا من نقاش خاصة بين المعتزلة كمناصرين للعقل وما أنتجوه من اجتهادات فكرية بخصوص أصولهم الخمسة ، وما أنتجه الاتجاه المعارض بزعامة الأشاعرة بخصوص ما إذا كان المطلوب هو أولوية العقل قبل ورود السمع كما يقول المعتزلة أم الأولوية للنص الديني أي النقل قبل العقل كما يقول الأشاعرة. إذ كانت هذه السجالات مناسبة لتفاعل المتعلمين آنذاك مع القضايا الشائكة التي تطرحها علاقة الحكمة بالشريعة وما كانت تثيره من نقاش يبذل فيه كل طرف جهدا كبيرا في الحجاج قبل الاقتناع. وهو ماافتقدناه اليوم جراء هذا الإقصاء المغرض للفكر الإسلامي من مقررات الفلسفة والذي اعتبر من طرف غلاة الانفتاح الانبهاري نصرا كبيرا على مستوى التسمية الرسمية للمادة. لقد تحول النضال بالنسبة لمن ولجوا مواقع القرار في الوزارة من واجهة العدالة والكرامة والمساواة إلى النضال من أجل ربح رهان تغييرتسمية المقررالدراسي الذي أخذ إسم "الفلسفة" وهي التسمية الرسمية الحالية عوض "الفكر الإسلامي والفلسفة" كما كانت في الكتب المدرسية السابقة، ويكون بذلك الإعلان الرسمي عن إقصاء الإشكالات والقضايا العميقة للفكر الإسلامي من كل حوار أو مماحكة فكرية أو تأمل عقلي وتفويتها لفائدة مادة التربية الإسلامية التي استفردت بإثارة قضايا الشريعة مع المتعلمين دون وعي بأن في هذا الإقصاء أكبر ضربة موجعة للحوار الفكري البناء الذي يروم تنمية قيم التسامح ومشروعية الاختلاف، وسيحرم تبعا لذلك المتعلم من متعة الإحساس بالذات الجماعية وبمساهمة الفكر الإسلامي في العملية التاريخية من خلال إطلاعه على الإبداعات التي توصل إليها . والسؤال هنا هو: ألم يكن من الممكن لو لم يحرم المتعلم من الآطلاع على رصيد أسلافه، أن يفاخر بعبقرية ابن رشد وسبقه التاريخي للقول بما سينتهي إليه العلم المعاصر بأن ليس هناك مستوى واحد من العقل، إذ كما لا يجوز استعمال المفاهيم المتعارف عليها ضمن الواقع بظواهره المادية في فهم الظواهر اللامادية كما هي ضمن الواقع بمفهومه المعاصر "لأن الجذور الجديدة للموضوعية في العقلانية المعاصرة أصبحت فيما لا يُلمس و لا يُرى"(باشلار)، فكذلك لا يجوز للعقل وبمفاهيمه المتعارف عليها في عالم الشهادة أن يخوض في القضايا الشائكة لعالم الغيب، إذ لكل مجال أدواته ومفاهيمه، ولا يجوز الاشتغال بأدوات هذا المجال لمقاربة مشكلات المجال الآخر، وأن مثل من يراهن على ذلك كمثل "من يطلب من الكبد أن تهضم الطعام" (ابن رشد).
بكل أسف لم تسمح مقررات التفلسف الحالية للمتعلمين أن يستفيدوا من حصص دراسية تُستثمر في توعيتهم بتراث أسلافهم لتحقيق الأمن المعرفي المنشود، والتحصين الفكري المطلوب.فما هي القيمة المضافة التي حققتها عملية إدماج مفاهيم دخيلة عن الحقل الفلسفي من قبيل التنافسية و التحرير بخصوص التأليف المدرسي للكتب المدرسية الثلاثة الحالية، وما الذي تقدمه للمتعلمين على مستوى التعليم والتقويم؟.. (يتبع) .