عبد الحق الحاج خليفة
أنهى المجلس الأعلى للتربية والتكوين جولاته الاستشارية ، ومن المنتظر أن يكون الآن بصدد تصنيف وترتيب القضايا والمشكلات الني تمت إثارتها خلال الجولات الجهوية في أفق صياغة ورقة نهائية اصطلح عليها خارطة طريق لإصلاح منظومة التربية والتكوين. وبالنظر لما يلاحظ على الكم الهائل من التدخلات التي تم عرضها على موقع المجلس المذكور، أو التي تناولتها الصحافة الوطنية حيث أجمع الكل على الحاجة الاستعجالية للتدخل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إن على مستوى البنيات والتجهيزات أو على مستوى الموارد البشرية أو على مستوى الحكامة التربوية مركزيا وجهويا أو محليا، أو على مستوى واقع تدريس اللغات ولغة التدريس والبدائل الممكنة أوعلى مستوى المساواة في تكافؤ الفرص بين القرية والمدينة في الاستفادة من التعليم الأولي أو على مستوى تصحيح الاختلالات في العلاقة بين المدرسة العمومية والخصوصية، أو على مستوى منظومة التقويم التي أفرغتها العديد من المستجدات من قيمتها التربوية، أو على مستوى الخريطة المدرسية التي تحرص على محاربة الهذر الكمي دون وعي بسقوطها في إعادة إنتاج التدني المطرد للمستوى وهو أخطر أنواع الهذر، أو على مستوى محتويات المقررات الدراسية التي تحرص على الكم دون أخذ بعين الاعتبار للهامش الزمني المطلوب للإنجاز... ، بالنظر إلى كل ذلك وغيره كثير من المشكلات التي تراكمت خلال عقود من الزمان يمكن القول أن حجم هذا الخصاص لا ينبغي أن يشكل عائقا أمام إصلاح ممكن طالما أن ليست هناك أجوبة واضحة بخصوص وكيف ستدبر كلفة الإصلاح التربوي وما تتطلبه من إمكانات مادية باهظة هي التي كانت وراء فشل العديد من المحاولات الإصلاحية السابقة، إذ حينما يتعذر توفير هذه الكلفة الباهظة عادة ما يتم التسويف والتنصل من لالتزامات سنة بعد أخرى، إلى أن تفاقم الوضع إلى الحالة التي أصبح عليها اليوم . ويجدر التذكير مرة أخرى في هذا السياق أن الأمر حينما يتعلق ببناء الإنسان وتأهيله لمواجهة التحديات فإن الواجب الأخلاقي يقتضي أن لا يتوقف واجب التعبير عند حدود النقد ومهما كان بنّاء، بل لابد من تجاوز ذلك إلى اقتراح البدائل الممكنة كي لا يشكل المتعلمون وما يعانونه من متاعب مجرد أداة في خدمة هذا الطرف أو ذاك.
بناء على ذلك فما العمل حينما يتعلق الأمر بصياغة خارطة طريق للإصلاح التربوي ضمن شروط تتميز بمفارقة كبيرة بين واقع الخصاص الكبير الذي شكل حصيلة واضحة للاستشارات الجهوية، وبين غياب الجواب الكافي بخصوص مدى الاستعداد لتوفير فاتورة هذا الخصاص المهول الذي لو استحضرنا واحدا منه فقط وعلى سبيل المثال - معضلة التعليم الأولي ومبدأ التعميم- لكان كافيا للشعور باستحالة الشروع في تفعيل مضامين ما تم التعبير عنه خلال جولات الاستماع؟.
من بين الزوايا الأساسية التي أكد رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين على ضرورة الانكباب عليها ، هناك حكامة المنظومة التربوية، وإرساء الترسانة القانونية والتنظيمية. وهما زاويتان أساسيتان بخصوص عملية الإصلاح التربوي . وإذا لم يتمكن المجلس المذكور من تحقيق أي تقدم بخصوص إقناع الفاعل الحكومي بضرورة التفكير الجدي في البحث عن مصادر تسديد فاتورة الإصلاح واستطاع فقط أن يحقق إنجازا على مستوى الحكامة التربوية والترسانة القانونية، وهما قضيتان لا تحتاجان لأية كلفة مادية بقدرما يحتاجان إلى الوعي الكبير بخصوصية الحقل التربوي ونوعية الأداء الذي يقتضيه، لجاز القول أن هناك إمكانية لاستعادة الثقة وخلق شروط المصالحة قبل الحديث عن الإصلاح.
فما ينبغي التركيز عليه كأولوية أساسية ضمن خارطة الطريق الممكنة للإصلاح الممكن هو مسألة الحكامة التربوية في كل مستوياتها مركزيا وجهويا ومحليا.
على المستوى المركزي: ضرورة تتبع الأداء الحكومي الذي ينبغي الحرص ضمنه على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحقل التربوي وحساسيته التي لا تقبل و لا تستسيغ ما هو سائد ومألوف لدى الفاعل الحكومي من معايير تقنية حسابية مادية صرفة تتناقض مع ما ينبغي أن يطبع القطاع التربوي من حرص على اعتماد معايير مغايرة ذات صلة بما هو كيفي وذلك انسجاما مع شعار الاستثمار في الثروة البشرية التي لا تقاس المر دودية ضمنها بالمعايير الكمية المادية بالمعنى النفعي في المدى المنظور، بل بمعايير لا مادية تستمد مبادئها مما هو علمي ومعرفي وأخلاقي ،وهو ما لا يمكن الرهان عليه في المدى المنظور بل المدى المتوسط على الأقل أو البعيد، إذ هناك فرق شاسع بين ما تراهن عليه المدرسة من مخرجات ممثلة في بناء الإنسان كغاية في ذاته لا يقوّم بسعر، وبين ما تنتجه باقي الحقول من منتجات مادية خاضعة لمنطق السوق. بمعنى أن ما ينبغي أن يتحكم في مستوى الأداء لهذا القطاع سواء تعلق الأمر بالقرارات أو المراسيم أو التصريحات، هو هاجس المصالحة وإعادة الثقة والمساهمة في تحقيق التفاعل والانخراط، أي القطع نهائيا مع العادات القديمة المتوارثة عبر الحكومات المتعاقبة وهي التعامل مع التعليم كقطاع مستهلك غير منتج والسعي قدر الإمكان إلى تقليص نفقاته، بل أكثر من ذلك التعبير الصريح بسعي الدولة للتخلص منه لفائدة القطاع الخاص وهو ما يشكل عائقا وهوة كبيرة أمام مساعي إقناع المعنيين بجدوى خطاب الإصلاح، وليس مجرد شعار كشعارات كثيرة سابقة عليه.
على المستوى الجهوي: ضرورة الحرص على تطوير وعي الفاعل الجهوي بالوظائف التربوية للأكاديميات الجهوية التي لا ينبغي أن تقف عند حدود الأداء الإداري التقني المرتبط بتدبير الدخول المدرسي ونهايته، وما بينهما من اختبارات جهوية ووطنية، بل ينبغي استثمار ما تتوفر عليه من موارد بشرية في التأطير التربوي من أجل تقييم الحصيلة على مستوى كل جهة على حدة والتركيز بصفة خاصة على ما يتعلق بمشكلات الإنجاز للمقررات الدراسية، مواطن القوة ومواطن الضعف فيها ومدى ملائمتها كما ونوعا للمستويات والشعب المتعلقة بها، وإنجاز تقارير حول واقع التقويم في كل مادة على حدة، مع إعطاء الأهمية لحصيلة التقويم بنوعيها الخاص بالمراقبة المستمرة والخاص بالامتحانات الإشهادية جهوية كانت أو وطنية. صحيح أن هناك إجماع على الضرورة الاستعجالية لمراجعة منظومة التقويم وبصفة خاصة مكونات احتساب معدل النجاح في الباكالوريا، إلا أن الصيغة أو النموذج المنتظر لا يمكن أن ينظر إليه كبديل كامل ، بل ضرورة إخضاعه للتتبع والمراقبة تجنبا للسقوط في ما هو سائد لدى المسؤولين من ثقافة " كل شئء على ما يرام" والوقوع بذلك في إعادة إنتاج المعضلات.
على المستوى المحلي : إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تتوفر عليه كل مؤسسة تعليمية من موارد بشرية تربوية وإدارية ، وإذا ما تمكن المجلس الأعلى أن يحقق تقدما على مستوى إعادة الثقة للممارسين الميدانيين، يمكن أن يشكل ذلك مدخلا ملائما لتقوية الإحساس لدى هؤلاء الممارسين بنبل وظيفتهم التي لاتعتبر مجرد وظيفة يتقاضى صاحبها مقابلا شهريا كتعويض عن الأتعاب، وإنما هي رسالة تؤدى لفائدة متعلمين شاءت ظروفهم أن يكونوا مجبرين على متابعة دراستهم ضمن المدرسة العمومية، وأنهم بحكم ما يعانونه يستحقون التطوع لفائدتهم من أجل سد خصاص كبيرعلى المستوى المعرفي والأخلاقي والنفسي والصحي. ويمكن للترسانة القانونية أن تعمل على تحيين وإعادة النظر في مجالس المؤسسة وصلاحياتها وخلق الجسور بينها وتسخير كل إمكاناتها لفائدة احتضان المتعلمين في إطار تصور تربوي شمولي يلعب فيه مجلس التدبيربشراكة مع جمعية آباء وأمهات وأولياء التلاميذ دورا رائدا بخصوص عملية الاحتضان التربوي الذي يمكن أن يشكل إمكانية للتخليق وتنمية السلوك المدني والتشبع بالقيم لدى هؤلاء المتعلمين، بالمعنى الذي سبق الحديث عنه في مقال سابق من حيث جعل الفضاء المدرسي فضاء للمجتمع المدني الداخلي في المرحلة الحالية، ليس دفاعا عن التقوقع والانغلاق وإنما تحصينا للمدرسة مما يسود في المحيط ويتفشى فيه، و في انتظار نضج الوعي بضرورة تحويله من محيط عائق إلى محيط داعم.
إن من شأن هذا التركيز على زاوية الحكامة ومن خلال الأمثلة الثلاثة المتعلقة بالإجراءات الاستعجالية الممكنة والتي لا تحتاج لأية كلفة مادية، أن يعمل على فتح بوابة الأمل أمام المعلمين ،ويزيح جزءا كبير من المعاناة على المتعلمين.