أولا: النظرة الأحادية إلى الإصلاح.
من المؤسف أن المسؤولين في الحكومة ، و في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ،وفي المجلس الأعلى للتعليم وكذا المؤسسات العمومية والأحزاب والنقابات يتناولون موضوع التقاعد منفصلا عن التوظيف ، والتنمية والاستثمار ، والجهل والأمية والمرض والفقر والجريمة والفساد المالي والإداري والقانون....وهي مجالات مترابطة لا يمكن معالجة مجال دون استحضار المجالات الأخرى ، إما بالاستفادة من إحدى القطاعات المنتجة أو ببحث سياسة دقيقة لتدبير ظاهرة من الظواهر الاجتماعية قصد التقليل من أثرها على المرافق الحيوية المنتجة ، أملا في الحد منها بالتدريج .
وآليات هذه المعالجة الشاملة متعددة ومتنوعة ، ومن أهمها ، مثلا ، استغلال إحصاءات المندوبية السامية للتخطيط ، وسجلات الولادات والوفيات والحالة المدنية ، ووزارة الداخلية والجماعات المحلية ، و المدارس والجامعات والمحاكم ووزارة الفلاحة والصيد البحري ووزارة النقل وغيرها...
ذلك أنه قبل الشروع في تناول أي إصلاح في أي قطاع لا بد من أن تتوفر لدينا إحصاءات دقيقة عن وتيرة ارتفاع عدد المنتمين لأي قطاع ومقارنتها بالماضي والحاضر واستنتاج وتيرة المستقبل حتى لا نفاجأ بأزمات الصناديق الفارغة التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي والإداري .
ثانيا : لا إصلاح بدون تشريح واقعي لتطورات ملف التقاعد وعلاقته المباشرة بالتوظيف:
ولتوضيح ما حدث للصندوق الوطني للتقاعد وعلاقته بالقطاعات الأخرى ، سنضرب مثلا بقطاع التعليم باعتباره أحد المجالات التي تضم عددا كبيرا من الموظفين، وسنرى الحاجة الملحة إلى الإحصاء والمقارنة واستحضار القطاعات الأخرى المذكورة في مقدمة هذا المقال، وسنعود بالذاكرة إلى ما قبل 1980 حيث يردد المنكبون على الإصلاح ، اليوم ، معادلة "سحرية" تخفي وراءها الحقيقة التي أدت إلى إفلاس صندوق التقاعد إلى جانب عدم أداء الدولة ما عليها و التدبير السيء والتهاون وقصور النظر، ومضمون هذه المعادلة أن 12 منخرطا مقابل متقاعد واحد – قبل 1980- وأما اليوم فصارت المعدلة ،كما يقولون ، كالتالي : 3 منخرطين مقابل متقاعد واحد.بمعنى أنه في المتستقبل ستنقلب المعادلة رأسا على عقب ، أي 12 متقاعدا مقابل منخرط واحد وهكذا...لكن المهم هو ما يخفيه هؤلاء الباحثون وهو كالتالي: قبل 1980، ومنذ الستينيات كانت كل القطاعات ومنها التعليم قطاعات فتية ، وكان عدد الموظفين في ارتفاع طبيعي مطرد وفق تزايد عدد السكان ، ولنا أن نذكر- مثلا - عدد الأساتذة الذين عوضوا المدرسين الأجانب من فرنسا ورومانيا وبلغاريا والدول العربية كسوريا ومصر و فلسطين والأردن ، بمعنى أن وعاء التوظيف كان يسار الطلب ، وأن كفة التوظيف كانت راجحة على كفة التقاعد ، بالرغم من بعض الاضطرابات التي عرفها قطاع التعليم في فترة من الفترات.
ماذا حدث بعد 1980؟ الذي حدث أن المغرب اكتفى بأطره وأسس الجامعات في مناطق متعددة من ربوع الوطن ، واستقبلت الكليات كل التخخصات ، وتخرج منها الطلبة و استوعبتهم المدارس والثانويات والمعاهد العليا.
لكن إلى حدود 1985 بدأ تراجع التوظيف في ميدان التعليم من خلال الساعات التضامنية التي حددت آنذاك في 4 ساعات في الأسبوع أضيفت إلى جدول حصص كل أستاذ من أساتذة التعليم الإعدادي ، و3 ساعات في السلك الثانوي ، وربما أيضا في التعليم الابتدائي.
ولبيان أثر هذه الساعات التضامنية نسجل ، من جهة ،أنها كانت أول لقمة فتحت شهية من يفكرون في أرباح لخزينة الدولة دون مراعاة مصلحة التلاميذ وحقوق الأستاذ، ومن جهة أخرى ، كانت الضربة الأولى التجريبية لتقليص عدد الموظفين ، وانتظار ردود الأفعال ، وبالتالي تضييق باب التوظيف الذي سيحدث خللا طبيعيا بمعادلة التقاعد ، وستشرع كفة المحالين على التقاعد ترجح على حساب كفة المنخرطين .
لكن كيف ذلك؟ سأقتصر الآن على ضرب مثال خاص بالتعليم الإعدادي وبمادة واحدة ، وهي اللغة العربية :
قبل 1985 ، لم يكن عدد التلاميذ بالنسبة لكل أستاذ يتعدى 100 تلميذ في حدود حوالي ثلاثين تلميذا في كل قسم.ولم يكن عدد ساعات عمل الأستاذ يتعدى إحدى وعشرين ساعة منها واحدة إضافية /غير واجبة يعوض ،ماديا ، عن مجموعها عند نهاية كل دورة من لدن نيابة وزارة التربية الوطنية التابع لها، وهذا يعني أن الساعات الواجبة المقررة كان هو 20 ساعة في الأسبوع.
ماذا جرى بعد ذلك ؟
لعل أول ما يثير الانتباه هو العمل على نقص عدد ساعات الأسبوع بالنسبة للتلميذ لتصبح ستا، وحرمانه من التفويج، وبالتالي الزيادة في عدد ساعات عمل الأستاذ إلى 24، وهو ما سمي آنذاك بالساعات الأربع التضامنية ، والتي ضحى بها الأساتذة من أجل أبناء الوطن ، وكانوا ينتظرون التراجع عنها بمجرد زوال أسباب اللجوء إليها ، بل كانوا يحلمون بأن يصفق لهم المسؤولون والمجتمع ويشكروهم على ما قدموه لأبناء المغرب ، لأننا لو أحصينا عدد الساعات التطوعية في التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي ، وقدرنا مقابله بالدرهم المغربي لأصبنا بالذهول ، ولهذا ندعو كل من يحشر نفسه – من الجاهلين بتفاصيل التربية والتعليم في بلادنا – في الحديث عن الأساتذة والتعليم أن يتناول الآلة الحاسبة و يجري عملية الجمع والضرب ويعبر عن إحساسه دون أن يعلنه لأحد ، لأنه ، لاشك ، لن يصدق الآلة في أول نتيجة، وسيتشاور في الأمر مع غيره من الأهل والأصحاب والجيران. وعندما وقع خصم ساعة من مجموع الساعات المخصصة للمواد الأساسية الثلاث- عربية، فرنسية، رياضيات-وأضيفت أربع تطوعية للأستاذ، فقد أٌّسند إليه أربعة أقسام بدل ثلاثة كما كان قبل التطوع، بمعنى أن 120 قسما ،مثلا ، ستحتاج لثلاثين/30 أستاذا بدل أربعين/40 أي “ربح” أجرة عشرة أساتذة في كل شهر… وهلُم جرا. ولهذا تأثير مباشر على عدد المنخرطين في صندوق التقاعد أي فقدان عشرة منخرطين من خلال عدم التوظيف والاكتفاء بالاكتظاظ وإرهاق الأستاذ من غير حق.
وفي الوقت الذي كان الأساتذة والتلاميذ ينتظرون التراجع عن هذه الساعات الإضافية التي تحولت بفعلٍ متحايل من “مهندس ” خطير إلى واجبة، جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين بالضربة القاضية من الشوط الثاني حينما قرر أربع ساعات – أسبوعيا – لمادتي الفرنسية والعربية وخمس للرياضيات ، بدلا من 6، وأسند لأستاذ هاتين المادتين 6أقسام عوض أربع!! فتضاعف عدد التلاميذ والأقسام ، بالنسبة للأستاذ ، ليصبح حوالى مائتي تلميذ ، أي ستة أقسام !!ولم يعد الأستاذ يرى تلاميذه يوميا كما كان سابقا، وقد جاء “الربح” ، هذه المرة ، أكثر جشعا حيث سنحتاج فقط لعشرين (20 ) أستاذا لتدريس 120 قسما بعدما كنا نحتاج لأربعين (40) قبل “الضربتين الإصلاحيتين” ، أي إغلاق الباب التوظيف أمام المعطلين ، وهو ما يعني فقدان 10 منخرطين ليصبح المجموع تراجع كفة الانخراط ب 20 مقابل كفة الخروج إلى التقاعد ...وهكذا.
ولتلخيص تدحرج المعادلة نوضحها كالتالي:
- قبل 1985 : 120 قسما يضم حوالي 30 تلميذا ←يتطلب 40 أستاذا:بنسبة 3 أقسام لكل أستاذ
- بعد الساعات التضامنية 120 قسما من حوالي 30 تلميذا ←يتطلب فقط 30 أستاذا بنسبة 4 أقسام لكل أستاذ.
بعد الميثاق الوطني :120 قسما من حوالي 40 تلميذا ← فقط 20 أستاذا أي بنسبة 6 أقسام لكل أستاذ.
نستنتج من هذا المبيان أن التوظيف تراجع بنسبة 50 بالمائة، فكان من الطبيعي جدا أن تتراجع كفة معادلة التقاعد من 13 منخرط مقابل 3 محالين على التقاعد في قطاع التعليم.
لا للإصلاح المقلوب:
ولذلك فالمطلوب اليوم هو إحياء وتيرة التوظيف في كل القطاعات بنسبة معقولة ، وعلى الدولة والمشغلين أن يؤدوا ما عليهم ، و موازاة مع ذلك نشرع في الإصلاح وفي إعادة الأمور إلى نصابها أولا.
وأما إذا أضفنا إلى هذه التراجعات في وتيرة التوظيف إسقاط مستوى الأولى من التعليم الإعدادي إلى السلك الابتدائي والذى سمي بالسادس ، فإن ذلك يعني أن 120 قسما التي كانت تتطلب 40 أستاذا مضروبة في 8 أساتذة للمواد الأخرى بالإعدادي / أي لجميع المواد 320 أستاذا، قبل 1985، ستحتاج فقط 60 أستاذا في المدرسة الابتدائية!!
كما أن صفقة المغادرة الطوعية التي أحدثت خللا كبيرا في الوظيفة العمومية وشبه العمومية قد صارت ضمن المسكوت عنه في كل نقاش حول إصلاح التعليم أو التقاعد.
ولذلك ، فإن أي سعي خارج الإصلاح الحقيقي للتعليم والمرافق الأخرى المستقبلة للموظفين ،وذلك بالعودة إلى الأصل وهو قلب المعادلة لتصير- في التعليم مثلا- وهو القطاع التي يوفر الموارد البشرية ، كالتالي :
عدد التلاميذ هو الذي يفرض ويتحكم في عدد المدرسين وليس العكس ، أي الميزانية والخريطة المدرسية وتوصيات البنوك المقرضة وغير ذلك مما لا صلة له بالأهداف الحقيقية من التعليم وباقي مرافق الدولة. بمعني أن تصور السائرين في الإصلاح اليوم تصور مقلوب يمشي على رأسه والصواب أن يمشي على رجليه.
و لذلك ، فإنه لا يمكن أن نحلم بحلول واقعية لأزمات القطاعات والصناديق .ما لم نبدأ بالوقوف على هذه الأعطاب وإصلاحها إصلاحا حقيقيا ، وذلك بدءاً بإعطائها المرتبة التي تستحقها في تشكيلة البحث والتمحيص ، وبإ شراك المعنيين المباشرين بالملف والمطلعين على دقائقه وخباياه – خاصة - رجال التعليم ونسائه الممارسين في القسم وليس القاعدين على الكراسي بين الأوراق و الذين يعتقدون ، عن علم أو جهل ، أنهم يمثلون الأساتذة ، وهو الوضع نفسه بالنسبة للموظفين في القطاعات الأخرى .
ولا شك أن إصلاح نظام التقاعد في شموليته ،وبنظرة واعية تراعي القطاعات الأخرى والمشاكل الاجتماعية وبطالة المعطلين وحاجات المواطنين إلى التعليم والأمن والصحة والشغل وخدمات التنقل والبنك والبريد والسياحة والاستجمام والغذاء ، سيكون حلا نهائيا ودائما لمشاكل المواطنين ، وهذا يتطلب الزيادة في التوظيف لا إرغام الموظفين على تأجيل الخروج إلى التقاعد ، لأن هذا الإجراء أشبه ما يكون بمن يطلب من الأزواج تأجيل الإنجاب في انتظار توفير مستشفى ولادة وروض أطفال ومدرسة ....فهل هذا معقول؟ وهذا ، للأسف ، هو التصور المقلوب للإصلاح.
حسن برني زعيم / أستاذ اللغة العربية / باحث في التربية والتعليم