حاوره سعيد الشقروني
سؤال: الأستاذ عبد الإله دحمان، الأستاذ والفاعل الاجتماعي والمهتم بشؤون السياسة التعليمية والتربوية، ورئيس المركز المغربي للأبحاث حول المدرسة، صاحب العديد من المقالات والحوارات ذات الصلة بالحكامة التربوية والتعلمية، أود في البداية أن أشكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار والاستفادة من آرائكم وتحليلاتكم التي لنا اليقين بأنها ستضع المتلقي في الصورة العامة لما يجري بخصوص ..
جواب: العفو أستاذي العزيز، أغتنم بدوري المناسبة لأشكر منبركم على الاهتمام بالشأن التربوي وعلى حرصه على تمكين المتتبع من كل ما هو جديد ومفيد للمهتمين بالمجال.
سؤال: الأستاذ عبد الإله دحمان، أختار السؤال التالي منطلقا لمحاورتكم، أين يتجه الإصلاح التربوي بالمغرب؟
السؤال عن اتجاه المغرب، هو تساؤل مؤسس لإشكالية النظام التربوي المغربي منذ عقود، فمسألة الإصلاح التربوي من القضايا الساخنة في مجال الحياة السياسية والاجتماعية للعالم، والنقاش العمومي اليوم يتجه نحو بناء منطق جديد يكفل للتربية المدرسية أن تتجاوز التحديات المحدقة بها ويمنحها الدينامية التي تدفع بها إلى مواكبة عصف الحضارة الرقمية (التكنولوجية المتقدمة)، وأيضا يمكنها من احتواء الانفجار المعرفي والتكيف مع خصائصه (التسارع والتقادم والتنوع...)؛ وأظن ما نفتقده اليوم في سؤال الإصلاح هو الاتجاه في مسار بدأت الأنظمة التربوية تتصدع وتتداعى أمام المد الحضاري القاهر الذي يهدد المعايير والأسس التقليدية التي قامت عليها المؤسسات التربوية التقليدية، وبالتالي كل مخططات الإصلاح التربوي الرسمية بقت سجينة ترديد أسئلة يحكمها منطق غير متحرك، أي غير مستحضر لتحديات العصر في بعدها الإنساني العام. وهنا لابد من التذكير، إن تاريخ إصلاح المنظومة التربوية التكوينية بالمغرب -منذ الاستقلال- هو تاريخ أزمة حيث اختزل الإصلاح التربوي في تشكيل اللجان وصياغة الاستراتيجيات وبناء التوافقات حولها دون اعتماد إرادة حقيقية في التطبيق والتنفيذ، سواء في التدبير أو التمويل أو التقويم، فمنذ تشكيل اللجنة العليا للتعليم سنة 1957، فاللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1958، مرورا بلجنة التربية والثقافة سنة ،1959 فالمجلس الأعلى للتعليم برئاسة وزير التربية الوطنية ،1959 فمناظرة المعمورة سنة 1964، فأول مجلس أعلى للتعليم يرأسه الملك سنة 1970، فمناظرة إفران السنة1970، وافران سنة 1980، فاللجنة الوطنية للتعليم سنة 1994، فاللجنة الملكية للتربية والتكوين سنة 1999، والتي لم ير مشروعها النور، فاللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التي صاغت الميثاق سنة 2000 وقدمت حصيلة عملها في منتصف العشرية وسلمت أمورها إلى المجلس الأعلى للتعليم الذي نصبه جلالة الملك في 14 شتنبر 2006 أقول، تأكد من خلال هذا المسار أن تدبير هذا الملف أنجز تراكمات على مستوى صياغة الخيارات الإستراتيجية للسياسة التعليمية من خلال التوافق حول المرجعيات أو الأهداف العامة، لكن ارتهان المنظومة التعليمية بالمغرب إلى التوازنات السياسية وبعض دوائر القرار وعدم الاشتغال وفق استمرارية الإدارة حال دون ترصيد التجارب وكذا تبني الآليات التنفيذية في إطار إرادة سياسية تتجاوز زمن التدبير الحكومي واكراهاته، فإخفاق المغرب في تبني سياسة تعليمية واضحة المعالم والأهداف، يعزى بالأساس إلى هذا الالتباس على مستوى القرار السياسي الذي قارب الشأن التعليمي وإصلاحاته مقاربة انتقائية/تقنية أفرغت جهود الإصلاح من محتواها، حيث سيادة منطق الدولة وغلبة السياسي على التربوي مما أفضى إلى تضخم الخطاب السياسي في مجال الاختيارات والتوجهات والمبادئ المرجعية للسياسة التعليمية، في مقابل ضعف الربط بين الأهداف المرجوة والإمكانات الموجودة ودرجة كفايتها لتحقيق تلك الأهداف، ويؤكد الباحثون هذه الصورة ب "أن مشكل التعليم في المغرب يكمن في الخلل في توازن العرض والطلب وإشكالية التمويل، وضعف النموذج الوطني أو غيابه حتى" المخططين" ولدى من تعاقب على مسؤولية القرار التربوي وعلى مسؤولية تنفيذه، وتأرجح النظام التعليمي بين نموذجين (وربما أكثر)..
سؤال: في نظركم، أين يكمن الخلل في مقاربات الإصلاح أو في التخطيط له أم في مضمونه أم ..؟
جواب: أظن أن التقارير التي استهدفت قراءة واقع التربية والتعليم بالمغرب سواء منها الوطنية أو الدولية أو الداخلية للسلطة التربوية رسمت صورة جالية ترددت ملامحها في طي كل الخطط أو التقارير التشخيصية، لكن المشكل يبقى في طبيعة الإجابات عنها ولعل تقرير الخمسينية أجمل أعطاب التعليم في خمسة توجهات كبرى (الإخفاق في مجال محاربة الأمية، وعدم تحول هذه القضية إلى هدف سياسي راسخ، وضعف القدرة الاندماجية للمدرسة، وتعثر الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية للمنظومة التربوية، وتقهقر المردودية الداخلية للنظام التربوي، والارتباك في السياسة التعليمية...)؛ لكن هل استطاعت السلطة التربوية ومالكو القرار التربوي التفاعل مع هذه الأسئلة وفق منظومة إجابات تؤسس لمنظومة جديدة برهانات جديدة؟.على ما أظن، هنا يمكن البحث عن ملامح الاتجاه والتوجه بالنسبة للإصلاح التربوي بالمغرب أي إيجاد مقاربة باستحضار نسق التحديات الحضارية الجديدة إذ ما زال الإصلاح التربوي يشكل هاجس المجتمعات الإنسانية، وما زال الحُلم في بناء تربية متجددة قادرة على تجاوز قهر الإنسان وتصفية معاناته والانتقال به إلى عالم العدالة والقوة والمساواة يحتل مكانة هامة في وجدان القيادات السياسية والتربوية. وهنا أيضا لابد أن نطرح إشكالية الجسر المنهجي الذي يبيح لنا الانتقال من مفهوم الأزمة التربوية إلى مفهوم الإصلاح التربوي، ومن مفهوم الأزمة البنيوية في المجتمع إلى مفهوم الإصلاح الشامل الذي يعتبر الإصلاح التربوي مدخلا له ومُخرجا أساس له. إن الإصلاح التربوي ليس مصطلحا للاستهلاك السياسي والديماغوجي بل هو من المفاهيم الرئيسة التي على أساسها يتم دراسة وتحليل الأنظمة التربوية المعاصرة، أي إن المركب اللفظي "الإصلاح التربوي"، كما تتم مطارحته شعبيا وكذلك ينبغي رسميا، من أدوات التحليل السوسيولوجي والتربوي، ومدخل منهجي من مداخل البحث والتقصي في مجال القضايا التربوية والاجتماعية؛ بناء على هذا المدخل يمكن الجزم بأن أزمة النظام التربوي بالمغرب في فقدانه التوازن المطلوب مما أدى إلى خلل في مدى قدرته على أداء وظيفته في علاقته بالمجتمع، وضعف قدرته على تحقيق الغايات الأساس التي بنيت عليها الفلسفة التربوية المغربية الشيء الذي يقود بالضرورة إلى أعطاب حقيقية داخل المجتمع، دون أن ننسى بأن مفهوم الإصلاح التربوي واتجاهاته بالمغرب ظهر في سياق أزمة هذا النظام التربوي وسيادة منطق التجريب الذي حاول الإجابة عن أسئلة تقنية لم تنفذ إلى عمق الإشكال الإنساني والحضاري بالفهم الحضاري لفيلسوف مالك بن نبي (التخلف الحضاري تمظهر لأزمة في التربية والثقافة ..)، وتتمثل إحدى وجوه الأزمة التربوية لبلدنا في أن التربية تستهدف المستقبل، بينما مخططاتنا الإصلاحية مصممة على أساس الماضي وهنا تبرز المفارقة; فأغلب الدراسات التي أجريت تحت الطلب من وزارة التربية والتكوين لم تأخذ طابعا منهجيا وأكاديميا بل بقيت هذه الدراسات أقرب إلى التقارير منها إلى البحوث العلمية المتكاملة التي تستحضر العمق التربوي، لأن دراسة قضايا التعليم بمقاربة تقنية كان هو الغالب في مقابل إهمال الجوانب التربوية التي تعد أساس أي إصلاح تربوي ممكن، ناهيك عن طبيعة التخطيط الذي تم وجودته والجهة التي تكفلت به.
سؤال: كيف تشخص أزمة النظام التربوي المغربي؟
جواب: أظن أن الأزمة لم تعد تقتصر على النظام التربوي، بل هي أزمة مركبة بتمظهرات عدة لكنها جلية، الأزمة اليوم هي أزمة إصلاح.. في مقارباته ومداخله واختياراته. ويتفاقم في ظل:
- غياب الرؤية التكاملية للتخطيط بصورة عامة في تنمية المجتمع، وفي مجال العمل التربوي على نحو خاص: فالرؤية التجزيئية ما زالت مسيطرة على مختلف محاولات النهوض والتطوير التربوي، وهذا ينسحب على مجالات الحياة الأخرى (السياسية والاقتصادية والإدارية...)؛ حيث انعدام الترابط والاتساق فيما يتعلق بين خطط الإصلاح التربوي وبين الخطط التنموية الشاملة للمجتمع؛
- غياب الرؤية المستقبلية: أي تحرير وتحديد الموقف الفلسفي من الزمن باعتباره إشكالا في العقل المخطط، إذا كان هذا العقل يريد فعلا أن يواجه حركة التاريخ التي تتجاوز الحاضر والماضي إلى آفاق مستقبلية بعيدة المدى، فلا يمكن أن ننظر للمستقبل بأدوات مغرقة في منطق الماضي أو غير مستوعبة للتحديات الجديدة ودينامية اشتغالها واستقراء بل وتوقع أثارها، وهذا معطى منهجي أكثر منه مضموني بالنسبة للإصلاح التربوي.
- غياب الموقف الفلسفي الواضح والتمثل الجلي من مواصفات إنسان الغد الذي نريد، أي الموقف من صورة الإنسان/الغاية الذي يجب على التربية أن تعمل على بنائه، أو بعبارة أخرى، مطارحة وظيفة المدرسة في علاقتها بأعضاء مجتمعها. فالإنسان الذي تعده حاليا المدرسة المغربية إنسان يعني حالة الاغتراب في عصره ومجتمعه بالنظر إلى عمق الفجوات بين المدرسة ومجتمعها الذي كان مفروضا أن تُجَسِرَهُ المدرسة وعليه نجد خريج مدرستنا العمومية بشكل عام يفتقد إلى القدرة على مواجهة التحديات الحضارية لأن المُخَطِطَ للتربية لم يعمل على تحديد الموقف الفلسفي من الإنسان في خططه ووصفاته لإصلاح التربية ونظامها.
سؤال: ماذا تقترح لتجاوز أزمة النظام التربوي المغربي؟
جواب: في اعتقادي وبناء على ما سبق، ما لم تحسم السلطة التربوية في طبيعة المقاربة المعتمدة منهجيا، لن نستطيع معالجة إشكالات التعليم والتربية بالمغرب، وهنا لابد أن أطرح وبشكل مغاير مسألة المدخل المعتمد في الإصلاح التربوي، بما يعني قلب فلسفة الإصلاح المعتمد منذ الاستقلال إلى اليوم. ولتقريب هذا المنظور الجديد لابد من بسط إشكالية ظلت مغيبة في النقاش العمومي حول المدرسة المغربية واختيارات الإصلاح وهي مداخل الإصلاح بالنسبة للمنظومة التربوية..
سؤال: هل يمكنكم أن تقربوا القارئ من هذه الفكرة؟
جواب: تقوم هذه الأطروحة الجديدة على اعتبار أنّ مشروع إصلاح أي منظـومة تربوية سـواء أكان بشكل شامل ومندمج أو بشكل جزئي، لابد أن يتم من حيث هندسته وتصميمه، عبر اختيار منهجي في مستويين مندمجين:
- الأول مرتبط بطبيعة تحديد مضمون الإصلاح، وبالعناصر الجديدة المراد دمجها في بنية المنظومة التربوية ك (تضمّين معارف جديدة في المناهج الدراسية، قيم ومهارات، أو تكوين أساس أو مستمر يراعي المواكبة والجدة، تحديث في نظام الإدارة التربوية ...الخ)؛
- الثاني وهو سابق منهجيا عن الأول، والمقصود به اختيار الشكل أو المدخل الأساس المعتمد في الإصلاح، أي طبيعة الإطار المستوعب لمضامين الإصلاح والمحدد للتعامل معها. وغني عن القول، إن مسالة اختيار المدخل عملية صعبة منهجيا، ذلك لتعدّد المداخل واختلاف مرتكزاتها، ومقوّماتها، وحدودها؛ وبالتالي على مستوى المداخل بقي الإصلاح التربوي بالمغرب أسيرا للمدخل القطاعي فيما بقيت مداخل أخرى مهمة ومغيبة من قبيل المدخل القائم على الحكامة ومدخل الجودة والمدخل التنفيذي/الاستراتيجي. والمدخل القائم على معايير المؤسسات الدولية ليس باعتبارها محاور منصوص عليها في متن الإصلاح، بل باعتبارها اختيارات منهاجية في الإصلاح، وعندما نقول إن الإصلاح التربوي بالمغرب لم يغادر المقاربة القطاعية، فمعناه أنه بقي في بنية القطاع وإشكالاته فقط لأن المدخل القطاعي من المداخل السهلة التي تنبني على قاعدة تقنوية، ويعتبر الإستراتيجية الكسولة أو الوصفة غير المتعبة للقيام بإصلاح المنظومة التربوية، بحيث يقوم على اختيار مكونات بخلفية مضمونية تعتقد السلطة التربوية الموكول لها الإشراف على النظام التربوي إنها أساسية وتجيب عن الإشكالات التي يطرحها التشخيص بشكل ميكانيكي من قبيل ( المناهج، الكتب الدراسية في مختلف الأسلاك التعليمية، نظام الامتحانات، التكوين بأنواعه ،الإدارة التربوية ..)، وهو ما حدث، حيث تم تشكيل اللجان من داخل القطاع حسب المحاور موضع الإصلاح، ثم يشرع الجميع في تعديل مضامين القطاع الموكول له وفق توجّهات خطة الإصلاح دون إبداع أو حرية في التعديل أثناء التعامل مع إكراهات الواقع التربوي والتعليمي، ولا تتجاوز عملية الإصلاح القيام بإجراءات نصية ك"إضافة محتوى أو مضمون تعليمي في مقابل حذف محتويات أخرى..تغيير في الهندسة البيداغوجية في غياب مبرر لذلك أو الجدوى، تعديل في الضوارب المسندة إلى بعض المواد الدراسية وفي التوقيت المخصّص لكلّ مادة، إدخال طرائق جديدة في عملية التعليم والتعلّم وفي استخدام الوسائل والتقنيات التعليميّة/التعلّمية، إدخال تعديل على هيكلة التكوين للمدرّسين وعلى الإدارة المدرسية وعلى الزمن المدرسي"؛ إلى غير ذلك من الإجراءات القائمة أساسا على استحضار واستثمار الخبرة والتجربة الميدانية في غياب شبه تام لمعايير علميّة محدّدة مسبقا ومتعارف عليها دوليا، وبالتالي يُصَعِب ُهذا المدخل عملية التنفيذ الميداني، فقد يجد المدرّسون أو بعضهم صعوبة في استخدام إجراء أو برنامج جديد يتطلّب تدريبا وتجهيزات ليست دائما متوفرة، وينعكس ذلك على ضعف الانخراط فيه قاعديا، خصوصا في ظل انعدام متابعة وتقييم لمختلف مراحل الإصلاح التربوي، وعليه أنصح باعتماد مقاربة مندمجة مغايرة لمسار الإصلاح كما شهدته المدرسة والجامعة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم..
سؤال: الأستاذ عبد الإله دحمان رئيس المركز المغربي للأبحاث حول المدرسة، كان بودنا أن نخوض معكم في مسألة مرجعيات الإصلاح، لكن ضرورة المقام تقتضي منا تأجيل الأمر إلى مناسبة قادمة. أشكركم على هذا الحوار الممتع والمفيد، ونتمنى لكم التوفيق.
جواب: العفو، على الرحب والسعة، أكيد كان الحوار فرصة لتقديم وجهة نظري في الموضوع، والمساهمة في إثراء النقاش الوطني حول قضية حقيقية تهم الرأي العام التعليمي والتربوي، وتمس بشكل جوهري مستقبل التعليم ببلادنا، تحياتي لكم ولقرائكم.